أسعدني كثيرا ً أن أشارك بكلمة متواضعة في مؤتمر الجامع الأزهر لنصرة الأقصي ووقف تهويد القدس. فقد أعادني المؤتمر إلي مشاعري الدينية الحماسية النبيلة التي عشتها كثيرا ً في شبابي.. وافتقدتها اليوم وسط زحمة الحياة ومسئوليات المعيشة.. وقلت لنفسي يومها: "لو مت في هذه اللحظة وأنا في الأزهر يوم الجمعة وأنا أنصر الأقصي لكانت ميتة طيبة". فقد نفذ إلي مشاعري ونفسي هتاف عشرات الآلاف التي تهتف قلوبها قبل حناجرها نصرة للأقصي. وقد شد انتباهي وأهاج مشاعري الأخ الفلسطيني الشاب محمود جابر أبو حويج الذي أنشد في المؤتمر لفلسطين والأقصي بصوت ملائكي رائع هز الناس جميعاً.. وأسعدهم وأبكاهم في نفس الوقت. وقد هزتني مأساة أسرة محمود أبو حويج أكثر من صوته.. فقد قتل والده وثلاثة من أشقائه في أول أيام القصف علي غزة منذ عامين تقريباً. لقد قصف بيته في أول يوم فاستشهد والده وثلاثة من أشقائه.. هم أخته فادية 22 سنة.. وشقيقه محمد 17 سنة.. وشقيقه أحمد 6 سنوات.. وأصيبت والدته بكسر في الحوض.. وهدم البيت تماماً. مأساة يهتز لها الحجر والشجر قبل الإنسان.. لقد تحدثت مع محمود حويج وأنا في منتهي الخجل من نفسي.. وفي غاية الإكبار له ولأسرته ولأمثاله من أبناء الشعب الفلسطيني. فأخبرني أن والدهم كان حافظا ً للقرآن.. وعلم ستة من أولاده القرآن قبل أن يلقي ربه في هذه الغارة الوحشية.. وكان صوته جميلا ً وأورثهم جمال الصوت.. فعلم محمود الإنشاد وكان يحلم أن يراه ناقلا ً لقضية الشعب الفلسطيني إلي العالم كله عبر صوته الجميل.. خاصة أن محمود حصل علي المركز الأول في الإنشاد الوطني والديني علي مستوي فلسطين كلها قبل استشهاد والده. وها هو ينافس علي المركز الأول في مسابقة الشارقة.. وأتمني أن يفوز بها وعندما سألته: ماذا ستفعل بالجائزة؟ قال: سأبني بيتنا مرة أخري.. لأن بيتنا مازال مهدما ً حتي اليوم ونحن نسكن في بيت بالإيجار حتي اليوم.. والإيجارات مرتفعة جدا ً في غزة.. وأريد أن أعوض أمي عما فقدته.. فأنا رجل البيت حالياً وعلي مسئولية كبيرة جداً.. وأمي تعاني من آلام نفسية رهيبة بعد فقدها لأبي وثلاثة من أولادها في يوم واحد. قلت له: لقد أشجيت الآلاف بصوتك المحزون الرائع. قال: لقد كان حلم والدي رحمه الله أن أنقل للشعوب الأخري معاناة شعب فلسطين.. وأنا اليوم أحمل رسالتين، مأساة شعبي.. ومأساة أسرتي. فلم يكن أبي يتوقع يوماً أنني سأحمل مأساته هو مع مأساة شعبي إلي الشعوب الأخري. احتقرت نفسي وبذلي وهمتي وعزيمتي أمام عزيمة محمود وجلده. قلت له: كلمات الأناشيد التي تشدو بها جميلة ورائعة فمن صاحبها؟ قال: هناك أخ عزيز يؤلف الكلمات لي في غزة. فسألته: هل درست الموسيقي؟ فقال: لم تأت فرصة لدراستها.. فنحن في كرب شديد يحول بيننا وبين ذلك فقلت له: كيف تلحن هذه الكلمات؟ قال: بإحساسي الفطري ومشاعري الجياشة نحو هذه الكلمات مع وقع واقعنا علي كل خلية من جسدي. انصرف كل منا إلي سبيله.. وانصرفت الآلاف والجموع الغفيرة بعد المؤتمر ذاهبة إلي بيتها.. ولكن محمود وحده دوننا لا بيت له. انصرف الجميع ليجد أولاده في سكينة وطمأنينة.. ولكن محمود لا مأوي له. الجميع مصمص شفاهه ومضي.. ولم يكلف أحدهم نفسه بأن يعطي محمود هدية بسيطة باستثناء مهندس بدرجة وكيل وزارة كان يقف إلي جوارنا أعطي محمود هدية بسيطة بشعور الأب الحنون.. ورفض محمود كثيراً أن يأخذها لولا إصرار هذا المهندس علي ذلك. فقلت في نفسي: هذا الرجل هو الوحيد من بين هذه الآلاف المؤلفة الذي شعر بشعور الأبوة نحو محمود.. وأعجبني عفة محمود وإصرار المهندس. وقلت: هل مهمتنا تقف عند السماع والمصمصة والحزن والألم.. أم علينا أن نحول الحزن إلي عمل.. والمصمصة إلي سعي.. والسماع إلي برامج علي الأرض.. وهذا ما يفتقده العرب عامة والمصريون خاصة.