إذ أجابهم شعب مصر: (يا خالد بلغ أبوك .. كل الناس بيحبوك)!! هتفت بها حناجر أبناء مصر في تشييع جنازة نجلك الراحل!! وأما أبناء العروبة الذين يتَّمهم رحيلك ، فقد عبَّر عنها الشاعر الجواهري في يوم ذكراك حيث قال: أكبرت يومك أن يكون رثاء الخالدون عهدتهم أحياء وأنت والله كنتَ وستبقي نقي الذكر في نفوس الشرفاء من أبناء هذا الوطن.. لأنك عشتَ نظيف اليد، وشريف المقاصد والأهداف، فأحبتك الشعوب، وعشقت الزعامة في شخصك!! وعندما تحل بنا الذكري تلو الذكري ليوم رحيلك عنا ، نتذكر مقولة لشاعرٍ يخاطب بها شعب مصر قائلاً: أنا بني مصر الكرام بكربكم نبكي زعيماً بانياً ومشيدا سيروا علي نهج الفقيد لأنه النهج السوي لمن أصاب المقصدا ولكن أولئك المجتهدين الكارثيين الذين جاءوا بعدك ساروا علي نهجٍ كان يهدف أول ما يهدف الي طمس إنجازاتك العظيمة!!.. فقاهرة عهدك التي كانت عاصمةً لثوار شعوب افريقيا وآسيا وشعوبٍ أخري كانت تناضل من أجل عزتها وكرامتها، قد جعلوا منها عزبةً لحفنةٍ لمن لا ضمير لهم!! فأولئك النفر من المجتهدين كارثياً خططوا للإجهاز علي كل الإنجازات التي أنجزها المصريون الشرفاء ممن آمنوا بمشروعك الكبير في تأسيس وبناء الدولة العربية الكبري.. ويكفي روحك الطاهرة عذاباً عندما تحلق في سماء مصر لتري كيف عبث الذين جاءوا بعدك بأعظم الحضارات الإنسانية.. وإليك، القليل القليل مما فعلوا!!.. فإنجازك في بناء السد العالي قد زعموا أنه مضرٌّ للشعب المصري، حيث كتب علمائهم الجيولوجيون: بأن السد العالي قد تسبب في إعاقة الفلاحة المصرية، مؤكدين أضراره علي طمي الشواطئ!!.. ولكن الشواهد العلمية أثبتت عكس ذلك التهريج!!.. فلولا بناء السد الذي شُيد بسواعد المصريين لكان مصير مصر مثل بقية الدول الإفريقية التي أصابها الجفاف!! ولم يكتفوا بذلك بل قالوا: إن بحيرة ناصر للأسماك لا تُنتج أسماكاً بالمستوي المطلوب، وثبت بطلان ذلك الادعاء، حيث لاتزال بحيرة ناصر مصدراً مهماً من مصادر الثروة السمكية في مصر!! ثم جاءت جريمة من جاءوا بعدك الكبري، يوم نجحوا في الاجهاز علي أهم الانجازات الاقتصادية والتي تمّت في عهدك، فخصخصوا القطاع العام بحجج الانفتاح الاقتصادي، فكان ذلك الأمر بمثابة أُم الكوارث التي جعلتهم يسرقون شرعاً ما كان يمكن أن يضع مصر علي خارطة الدول المتقدمة صناعياً واقتصادياً!!.. واقتصموا جهود الغالبية العظمي من مقدرات الانسان المصري.. حيث قصروها علي حفنة من المليارديرات اللصوص تحت حماية كبار المسئولين في الدولة لتتخم خزائنهم بالمليارات، بينما غالبية أبناء الشعب تعيش علي الكفاف!! وكانت النتيجة المنطقية أنهم يقبعون الآن وراء القضبان، بعد أن طفح كيل الإنسان المصري، فقام بكسر حواجز الرعب التي بثوها، لتُعاد الأمور الي نصابها علي الأسس والقيم التي رضعها أبناء مصر علي امتداد تاريخهم!! وكم كنتَ رائعاً يوم استجبت لنداء المفكر الكبير الدكتور طه حسين، بينما أعلنتَ مجانية التعليم في مصر لتشمل جميع مراحل الحياة الدراسية، ولم يقتصر ذلك القرار علي المصريين فحسب، وإنما شمل جميع أبناء الدول العربية وغيرهم من أبناء الدول الأخري، ومنها دول شديدة الثراء، كان أبناؤها يتلقون العلم مجاناً علي حساب شعب مصر وأنا أحدهم.. ولكن من جاءوا بعدك من ذوي الاجتهادات الكارثية، أخذوا يظهرون عيوباً في قرار مجانية التعليم، ويزعمون: أن ذلك القرار قد أفسد الحياة الأكاديمية في مصر، إذ إنه أتاح فرصاً للعوام من السوقة والدهماء في حمل الشهادات العليا، ولهذا فإنهم - أي من جاءوا بعدك - قد فتحوا المجال علي مصراعيه للجامعات الأجنبية أن تفتح لها فروعاً في مصر من أجل عودة نخبوية التعليم، وقصره علي أولاد الذوات ممن عبّوا جيوبهم من سرقة الشعب المصري، باعتبارهم متميزين عن سواهم ممن اسموهم بالسوقة والدهماء.. وكم كان أحمد زويل رائعاً عندما أعلن أنه لم يصل إلي ما وصل إليه ، لولا مجانية التعليم!! وكم كنتَ صادقاً يوم أعلنت شعارك: (أن ما أُخذ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة). ويوم توليت بنفسك إعادة بناء القوات المسلحة بعد أن تم تطهيرها واستئصال جميع عوامل الضعف منها، حيث كرَّست لها كل جهدك في سنوات ما بعد النكسة.. انتظاراً الي قطف ثمار يوم النصر العظيم الذي كنتَ واثقاً من حدوثه لا محالة.. ولم يمهلك القدر لمشاهدة تنفيذ مشروعك الذي أوصلته الي مرحلة كبيرة من النضج، بحيث تم تنفيذه بعد سنتين من رحيلك علي أيدي أبناء مصر الأبطال، وكان نصراً عظيماً شهده العالم كله عندما قام الجندي المصري بإنزال العلم الصهيوني من علي الحدود المصرية!!.. ولكن الاجتهادات الكارثية، التي ساهمت فيها هذه المرة دول كبري مساندةً ومتضامنة مع العدو الصهيوني، ساهمت هي الأخري مع ذوي الاجتهادات الكارثية - ممن جاءوا بعدك - ليجعلوا من ذلك النصر العظيم الذي قطفوا ثماره - بعد رحيلك - ليقدموه هدية لأشد أعداء العروبة!!.. والعلم الاسرائيلي الذي اقتُلع من الحدود المصرية، عاد مرة أخري ليرتفع هذه المرة فوق سماء عاصمة العرب - القاهرة - تحت ذرائع ومسوغات ما أنزل الله بها من سلطان.. لعب فيها عراب الصهيونية هنري كسنجر - دوراً كبيراً، فتم تكبيل مصر العزيزة بمعاهدات.. وقد تم كل ذلك بفضل الاجتهادات الكارثية التي اجتهدها من جاءوا بعدك. ولكن حتمية التاريخ لا تقف طويلاً أمام الاجتهادات الكارثية!! فنم أبا خالد قرير العين في مثواك، فشباب مصر الآن يسطرون ملامح تاريخ جديد لمصر الجميلة، بحيث لا يحكمها بعد الآن مغامر يعيش جُلَّ وقته في حالة من التمثيل المفتعل، متوهماً أن مصافحته للشيطان ستدخله التاريخ، فسعي إليه في عُقر داره في الكنيست، فنكب الأمة العربية تحت مسمي السلام في اجتهاده الكارثي!! ولا يحكمها بعد الآن لص زائف يحيط نفسه بلصوص يقبعون الآن في مكانهم الطبيعي!!.. فمصر لا يحكمها مستقبلاً إلا من كان شريفاً.. وإلا فإن التاريخ نراه الآن لهم بالمرصاد!!. مناجاتك أيها الانسان الفذ في يوم ذكراك، تجعل المرء في حالة من الارتباك في اختياراته لما يريد أن يبثَّك إياه، فتزاحم الأفكار وتدفقها تحيل بينه وبين ما يعتلج بصدره من خواطر تشتمل علي الكثير من الأحداث التي مرَّت علينا منذ رحيلك عنا.. فهناك من لا يدرك، ولا يريد أن يدرك أن التجربة الناصرية، هي ليست تجربة شخص اسمه جمال عبد الناصر، وإنما هي تجربة أمة آمنت بقيادة رجل جاء حاملاً مشروعاً عنوانه وحدة العرب، وعزتهم، وكرامتهم، واجتهد في تجسيد ذلك المشروع عملياً، لكن قوي الشر في الداخل والخارج وقفت في مواجهته، مستخدمةً كل أنواع الخسة، والنذالة، والحقارة، لإفشال مشروع وحدة العرب!!.. لنصل في النهاية الي وضع جعل من هذه الأمة التي كانت مصدراً للحضارات الانسانية في أسوأ وأحط الأوضاع فوق هذا الكوكب!!.. وهناك نفرٌ ممن يفتقدون إلي أبسط أبجديات العمل الثوري والسياسي، يخوضون جهلاً في تجربة عبد الناصر في العديد من البلدان العربية، وتحديداً في اليمن، ليستخلصوا في النهاية نتيجةً مفادها: أن عبد الناصر قد ارتكب الأخطاء!!.. فلو أن هؤلاء يدركون الأهداف الرامية الي تحررهم من رتقة الذل والعبودية، لما ظلوا مكبلين بها حتي الآن.. وهناك جانب آخر في هذا الموضوع، فلو أن أولئك النفر ممن ينتقدون عبد الناصر قد بحثوا ونقّبوا عن الأسباب الحقيقية التي أدّت الي فشل التحرك العروبي الوحدوي الذي كان يقوده عبد الناصر، لتبين لهم أن وراءه جهات هدفها عدم تحقيق وحدة العرب، ليظلوا أذلاء ضعفاء ولا ينعمون بالحرية ولا الكرامة هذا ما تحقق لهم!!!.. لكن ربيع العرب وما يجري الآن من أحداثٍ يقودها شباب الأمة، ستعيد للعرب كرامتهم التي سطا عليها واستلبها من جاءوا بعدكَ!!