«زها حديد» قدمت شكلًا وفلسفة مغايرة للمعتاد والتقليدى بالعمارة الهندسية، وبالتالى عندما تذهب لمشاهدة عمل فنى عنها قد تتوقع رؤية سيرة ذاتية كاملة عن هذه السيدة التى لا يزال العالم يتذكرها وما زالت أعمالها باقية، التزمت زها بالمدرسة التفكيكية التى تهتم بالنمط والأسلوب الحديث فى التصميم، ونفذت 950 مشروعًا فى 44 دولة وتميزت أعمالها بالخيال، تضع تصميماتها فى خطوط حرة سائبة لا تحددها خطوط أفقية أو رأسية، كما تميزت بالمتانة، كانت تستخدم الحديد فى تصاميمها مثل مشاريع محطة إطفاء الحريق فى ألمانيا عام 1993، مبنى متحف الفن الإيطالى فى روما عام 2009، نالت العديد من الجوائز الرفيعة والميداليات والألقاب الشرفية فى فنون العمارة، وكانت من أوليات النساء اللواتى نلن جائزة بريتزكر فى الهندسة المعمارية عام 2004، وهى تعادل فى قيمتها جائزة نوبل فى الهندسة. شهد «دموع حديد» على خشبة المسرح الكبير وبطولة فريق الرقص المسرحى الحديث التابع لدار الأوبرا عودة الكريوجراف وليد عونى مديرًا فنيًا من جديد واختار عونى العودة ب»زها»، لكنه كيف عاد واستعاد بها ذكرياته مع فريق الرقص الحديث؟!، لم ولن تكتفى بالمشاهدة المعتادة للعروض الفنية لكنك ستصمت قليلًا بعد العرض وستأخذ نفسًا طويلًا للتأمل والتفكير فيما رأيت، وستظل فى حيرة وتساؤلات كثيرة ماذا قصد المخرج من هذا العمل وأين زها حديد، أين تاريخها وسيرتها الذاتية التى جئت لمشاهدتها..لا توجد فلا شيء مما توقعت وجدت..هكذا يفتح لك عونى بابا من التساؤلات والتأملات الكثيرة فى عمل أشبه بالمقطوعة الموسيقية التى تؤلف إحياء لذكرى شخص ما؛ ففى هذا العرض لم يتناول عونى فى شكل دراما الحكى سيرة حديد أو معلومات عنها وعن مشوار كفاحها الفنى بل قدم فلسفتها الروحية وتأملاتها الفكرية فى مجال الهندسة المعمارية فهو عرض للتأمل فى ذات زها حديد. فى مزيج بديع وصادم بين الفلسفة الصوفية وفلسفة حديد الهندسية قدم عرض الرقص الحديث، حيث ربط عونى بين ما كانت تردده حديد عن فلسفتها وفكرها فى مجال الهندسة فهى لا ترى خطوطًا مستقيمة ولا زوايا جانبية فلا يوجد حدود للحركة الهندسية من خلال هذا المعنى مزج عونى بين الأشكال الهندسية غير المستوية فى ديكور العرض وبين رقصة الدرويش التى انفرد بها الراقص محمد مصطفى الذى كان يذهب ويعود فى مشاهد متفرقة حاملًا أشكالًا هندسية صغيرة بالتوازى مع الأشكال الكبيرة التى حملها الراقصون واحدا تلو الأخر ورقصوا بها وداخلها فى حركات جسدية معقدة وغير منتظمة وغير مستوية أيضًا تمامًا مثل الأشكال التى احتوت أجسادهم. لم يكن العمل مثل العروض الراقصة التى اعتاد عونى أو الفريق تقديمها بل تضمن حركات فنية متغيرة فى مشاهد متتابعة ومعقدة بجانب المفهوم الفنى للعمل الذى لم يكن سهلًا على الراقصين تقديمه أو على المتلقى استيعابه دون الرجوع إلى القراءة ومعرفة المزيد عن حديد ثم معرفة التكوين الأيديولوجى لوليد عونى كمصمم ومخرج لفن الرقص المعاصر الذى يخرج دائمًا على كل التقاليد فكما ذكرت من قبل ستبحث عن زها ولن تجدها؛ لن تجد جسدها بل ستجد روحها محلقة فوق فضاء أشكالها الهندسية وهو الديكور الذى صمم بشكل مصغر لأسلوب تصميماتها غير المستوية صممتها البلجيكية صوفى كوفان التى أكدت فى كلماتها عن العرض ..»مثل أعمالى النحتية أو أسلوب لوحاتي، فإنى أهدم الأشكال الهندسية الأساسية من أجل إعادة اكتشاف فضاء جديد، ومن أجل إعطائهم نوعًا من التعقيد وأقوم بنسجهم معًا لخلق فوضى معمارية»..فعلتها كوفان وأدخلتنا بهذه التصميمات البسيطة للأشكال الهندسية لأعمال حديد الذى لم يحتو على ديكورات ضخمة ولا ملابس فاخرة بل قدم فى بساطة تشكيلية شديدة العذوبة والإتقان باستخدام إضاءة خافتة وضعتنا فى حالة العرض الراقص والحالة الصوفية التأملية فى الدوران والطواف حول الكون التى أرادها المخرج فى قراءة هذه الشخصية وكأنها تدور وتطوف بتصميماتها الهندسية تمامًا كما يطوف الدرويش حول نفسه فى حركة دائرية؛ وكذلك الملابس والديكورات المتحركة التى كان لها أثر كبير فى التشكيل الحركى بالتفكيك والتركيب أثناء الرقص؛ كما خرج الراقصون جميعًا فى أفضل حالاتهم الفنية وقدموا عملًا فى بطولة جماعية متقنة الصنع خاصة على مستوى الأداء الحركى الذى جاء بقدر تعقيده شديد الدقة والروعة والإتقان فلن تخرج من العمل ببطل واحد بل جميعهم كانوا نجومًا وأبطالًا تميزوا بالانضباط الشديد خصوصًا فى حركتهم داخل الأشكال الهندسية ثم فى رقصة التأملات التى افتتح وانهى بها المخرج عرضه نهاية بديعة ظلوا جميعا يتحركون حركة دائرية حتى تلاشوا من خشبة المسرح فظلت أفكار وتأملات حديد مستمرة حاضرة حية ترزق إلى أن تلاشت وغيبها الموت عن عالمنا، ساهم فى إكتمال هذه المعانى تداخل المؤثرات البصرية التى صممها رضا صلاح والتى احتوت على أشكال زها الهندسية فى خلفية المسرح ثم اختتمت بصورة حديد وهى تتبعثر فى الفضاء حالة فنية خاصة للغاية اتقن عونى صنعها مع كتيبته مصممة الديكور صوفى كوفان ومصمم الإضاءة ياسر شعلان، والراقصين محمد عبد العزيز، رشا الوكيل، محمد مصطفى، باهر أمجد، شيرلى أحمد، عمرو باتريك، نور الهنيدي، يمنى مسعد، أحمد محمد.