من يتأمل المشهد السياسي المصري في تلك اللحظة الراهنة والفاصلة في ذات الوقت.. تنتابه مشاعر متضاربة ومتباينة ومعقدة.. فالغالبية العظمي من المصريين يشعرون بالفخر والزهو.. وفي نفس الوقت يشعرون بالحيرة والارتباك.. ثم يشعرون باليأس والاحباط في نهاية المطاف.. وقد يبدو الأمر «فزورة» أو أحجية ولكنها ليست «فزورة» ولا حزورة.. ولا يحزنون.. الموضوع في منتهي البساطة مجرد قراءة موضوعية للمشهد السياسي المصري.. بعين محايدة لا هي مفرطة في طموحات الثورة.. ولا هي بعيدة عن حقائق الأمور.. ولا هي مغالية في تثمين حضارتنا وتقدمنا ورؤيتنا السياسية. فنحن نشعر بالفخر والزهو لما جري من مشهد حضاري.. وسلوك سياسي علي درجة عالية من الرقي والتحضر عندما نتأمل تفاصيل مشهد محاكمة الرئيس السابق ونجليه ووزير الداخلية الأسبق وستة من كبار قيادات الشرطة.. وأي مصري متحضر يعرف قيمة مصر وتاريخها العريق لا بد أن يكون فخورا بما حدث.. فنحن أمام مشهد تاريخي لم يحدث من قبل لا في مصر ولا في أي قطر عربي آخر.. فالرئيس السابق ونجلاه وحبيب العادلي ورجاله كانوا فقط منذ سبعة أشهر من أهم الشخصيات العامة ويتصدرون قمة المشهد السياسي المصري.. كيف يقفون جميعا داخل قفص اتهام صنع خصيصا لهم وفي أكاديمية الشرطة التي شهدت قبل يوم واحد من الثورة آخر احتفالات مبارك الرسمية.. حيث شهدت نفس الكلية لقاء مبارك برجال الشرطة في عيدهم المجيد.. وكان بجواره علي المنصة وزير الداخلية.. وفي نفس المكان.. إنها مفارقات القدر.. والدنيا الغرورة التي لا تؤتمن.. ولكنها سنة الحياة.. فلكل ظالم نهاية أسود من «قرن الخروب» ومبارك وحاشيته هم الذين صنعوا دولة الظلم وعاشوا فيها وغرتهم الأماني.. ولكن من أين يأتي الفخر والزهو في مثل هذا المشهد المأساوي الحزين؟! فأقول لكم: إن الفخر والزهو يأتي بقواتنا المسلحة التي رفضت الأمر العسكري بضرب المتظاهرين والقضاء علي ثورة شعب مصر المجيد.. وقالت قولتها الشهيرة: «إن من يحمل السلاح ويوجهه إلي صدر العدو الإسرائيلي.. لا يمكن أن يشهر نفس السلاح في مواجهة الشعب الغاضب والثائر ضد الحاكم المستبد».. فإذا نظرنا حولنا لنتأمل المشهد التراجيدي الحزين لما آلت إليه الثورة في ليبيا وسوريا واليمن والبحرين.. يشعر علي الفور بالفخر فجيش مصر الباسل لم يكن في يوم من الأيام جيش الحاكم.. بل هو خلق للدفاع عن الوطن.. فجيشنا المصري هو الجيش الوحيد في المنطقة الذي لديه عقيدة قتالية تملي عليه أن يقوم بواجباته القتالية لحماية أرض وشعب مصر.. والذود عن حدود الوطن ولم يخلق جيش مصر للدفاع عن الحاكم أو الملك فهو لا يحمل السلاح لحماية السلطان.. ولكن لحماية الأوطان.. لذلك فنحن نشعر بالفخر لهذه المحاكمة المتحضرة.. التي يمثل فيها رئيس سابق كان أحد أبطال حرب أكتوبر وأحد أهم قيادات الأسلحة الثلاثة الجوية والبحرية والبرية.. وهو الآن في قفص الاتهام يحاكمه قاضٍ مدني.. علي مرأي ومسمع من العالم كله وعبر شاشات التليفزيون في محاكمة علنية.. فهذا المشهد يؤكد تحضر هذا الشعب.. وانحياز قواته المسلحة إلي صفوف الشعب واختيارها شعارات مهمة ونبيلة: «الحق فوق القوة» و«العدل أساس الملك».. و«مصر دائما أولا».. أما المشهد الذي يدعو للارتباك والحيرة فهو مشهد «الثورة» نفسها وما آلت إليه من اختلافات وتضارب وفرقة ومهادنات ومداهنات.. ومهاترات بين قوي الثورة وائتلافات الشباب من ناحية.. وتحالف التيار الديني السياسي في مواجهة كل ائتلافات الثورة من ناحية أخري.. إنه مشهد محزن أيضا محير ومربك أما المشهد الذي يدعو لليأس والإحباط فهو مكون من جزءين ولكنهما وجهان لعملة واحدة.. ففي الوقت الذي ينظر إلينا العالم فيه بالفخر لتحضرنا في محاكمة رموز الفساد وعلي رأسهم رئيس مصر السابق.. نفاجأ بهذا الكم الهائل غير المسبوق من المشاجرات الدامية بين المواطنين هنا في الموسكي.. وهناك في إمبابة.. والمنيا.. وبني سويف.. وأبوقتاتة.. و.. الخ... وكلها مشاجرات دامية بالأسلحة البيضاء.. والسنج والسكاكين والمطاوي.. وكأننا في عصر الحرافيش والفتوات والمماليك.. فهي معركة لفرض الاتاوات.. وفرض السطوة ومناطق النفوذ واستعراض عضلات البلطجة والأقوياء علي الضعفاء والامنين فهل يستوي مشهد محاكمة الرئيس السابق الحضاري.. مع هذا المشهد الهمجي الذي يصدمنا كل صباح في الشارع المصري.. في ظل انفلات أمني مُهين لحضارتنا.. وغياب شرطي ما زال غامضا وغير مفهوم؟ أما الوجه الآخر القبيح الذي يصيبنا باليأس والإحباط.. فهو مشهد الإعلام المصري في كل محطات وقنوات التليفزيون الجديدة والقديمة الخاصة والعامة.. عندما نري نجوم الإعلام والفن والسياسة في مشاهد كوميدية وهزلية رديئة وباهتة.. سخيفة ومبتذلة.. تسخر من الثورة.. ومن الثوار وتقلب الأمور كلها رأسا علي عقب، فنحن أول شعب يسخر من ثورته ومن أبطال ثورته.. والعجيب في الأمر.. بل إنها من المفارقات الجارحة أن كل هؤلاء النجوم كانوا قبل الثورة يقدمون برامج ناجحة مع النظام السابق.. والآن تحولوا إلي «بلياتشو» أو «أراجوز» ليسخروا من النظام السابق ومن الثورة معا.. إنها مشاهد كاذبة وليس لها أي معني سوي أن نجوم الإعلام مصابون بانفصام في الشخصية.. فهم الذين امتهنوا الثورة وأهانوها وحولوها إلي «سبوبة» ليتكسبوا منها وكأنهم يمارسون «إهدار المال العام» أيضا بطريقة أخري.. فنحن الشعب الوحيد الذي قام بالثورة وقدم عددا كبيرا من الشهداء.. ثم افتتح قنوات لا حصر لها لتشويه الثورة.. ففي الوقت الذي كان يواصل فيه المجتمع المصري حراكه السياسي وتفاعله الخلاق من أجل التغيير للأفضل.. كان نجوم الصحافة والإعلام مشغولين «بالسبوبة» والوقوف أمام الكاميرات «لتظبيط» الماكياج والمشاهد الكوميدية السخيفة للسخرية من الثورة حتي لو كانت علي جثة النظام الفاسد الذي سقط.. فما نقدمه الآن نوع من «المسخرة» السياسية والإعلامية والفنية.. وهكذا تتضارب مشاعر المصريين ما بين الفخر والاعتزاز بقواته المسلحة والحيرة والارتباك من تطاحن فصائل الثورة واليأس والاحباط من ابتذال الإعلام وتحويله إلي سبوبة.. ولا عزاء لمن يعشق مصر لوجه الله فقط!