د. إبراهيم البيومي غانم بلغ عدد الأحزاب السياسية المصرية التي تحمل رخصة قانونية اثنين وعشرين حزباً بعد أن وافقت لجنة شئون الأحزاب قبل بضعة أسابيع على إنشاء حزب اسمه " حزب المحافظين". بينما هناك أحزاب مثل الوسط والكرامة يعرفها قطاع كبير من النخبة، وتحمل برامج ورؤى إصلاحية واضحة، وتضم مجموعات بارزة من قادة العمل السياسي والشخصيات الوطنية، ومع ذلك ترفض لجنة شئون الأحزاب الموافقة عليها، وتضع العراقيل في طريق قيامها. إن ظهور حزب سياسي جديد عادة ما يكون حدثاً مهماً يلفت أنظار النخبة السياسية والإعلامية على الأقل، ولكن الذي حدث هو أن الحزب ظهر ولم يشعر به أحد، شأنه شأن أحزاب قائمة تم تجميدها، أو حلها، أو تفجيرها من الداخل ، ولم يشعر بها أحد، بل ولم يأسف عليها أحد. وقد عبر الشاعر قديماً عن حالة مماثلة لهذه الحالة الهزلية عندما كان السلاطين يستبدون بشئون الحكم بعيداً عن رأي الجمهور، وكان رد الفعل هو اللامبالاة التامة من جانب الجمهور بما يحدث، والكف عن القيام بدور المحكومين!! وكان هذا الموقف صورة من صور الاحتجاج والثورة السلبية تجاه غطرسة الجماعة الحاكمة واستبدادها بالسلطة دون الرجوع إلى الأمة التي هي مصدر السلطات حسب الأصول الإسلامية الأصيلة. في مثل تلك الحالات كان الشاعر يقول: الله أكبر لا صبر ولا جزع ولا عزاء إذا أهل البلىَ رقدوا خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحد هذا التصوير البليغ لمشاعر الجمهور العام ينطبق إلى حد بعيد على موقف النخبة وليس الجمهور العام فقط من المشهد الحزبي في مصر اليوم ، فهذا التصوير البليغ يعبر بلسان الحال عن ردة الفعل تجاه حدث تجميد حزب أو تمويته (لم يحزن له أحد)، أو الموافقة على إضافة اسم حزب جديد إلى قائمة الأحزاب الموجودة(لم يفرح به أحد). وإذا كان هناك معنى للمشهد الحزبي الراهن في مصر فهو التدهور إلى مستوى أدنى من مستوى "أحزاب الأشخاص" الذي كان سائداً في العهد الليبرالي الملكي قبل ثورة يوليو 1952. إذ كان العيب الأساسي لأغلب الأحزاب القائمة آنذاك هو أنها أحزاب أشخاص وليست أحزاب برامج، وكان لكل حزب شخص يسيطر عليه، ويعرف به، ويرتبط مصيره وجوداً وعدماً بمصير هذا "الشخص" الذي كان يمتلك بعض المؤهلات الثقافية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية أو ما شابه ذلك. كانت الأحزاب إذن أحزاب أشخاص، وكانت البرامج والمشروعات الإصلاحية أبعد ما يكون عن فكر أولئك الأشخاص، ولم يكن يشعر بهم أحد إلا في بعض دوائر القصر الملكي، أو في بعض دوائر السفارات الأجنبية. ومن المفارقات المدهشة أن حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين كان دائم المطالبة بحل مثل تلك الأحزاب لسبب رئيسي هو أنها "أحزاب أشخاص" ولا برامج لها، في حين أن جماعته كانت تقدم بين الحين والآخر برامج إصلاحية تتناول الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والدستورية، ومن فرط إعراض الأحزاب الرسمية في تلك الحقبة عن طرح مثل هذه البرامج طالب مؤسس الإخوان بحل تلك الأحزاب وألح على ذلك مراراً وتكرارا ، ولكن لم يستجب أحد لطلبهن إلى أن قامت ثورة يوليو وأخذت بهاذ الرأي. المشهد الحزبي الراهن يشير بوضوح إلى أننا دخلنا في حالة جديدة أكثر رداءة من حالة "أحزاب الأشخاص"، وهي حالة "أحزاب الأسماء"؛ وهي تعني وجود عدد من أسماء الأحزاب دون أن يكون تحتها لا أشخاص لهم مؤهلات ذاتية تبرر وجودهم على مسرح الحياة العامة، ولا برامج أو أفكار تلتف حولها قطاعات من النخبة أو من الجماهير الشعبية. وإذا كان النظام الحزبي الحالي يشترك مع النظام الحزبي قبل ثورة يوليو في أن كليهما مصطنع، وليس وليد رغبة شعبية، ولم ينشأ نشأة طبيعية كما يحدث في البلدان الديمقراطية، فإن نظام ما قبل يوليو يتفوق على النظام الحالي لكونه كان معتمداً على مجموعة من رجال المال والسياسة المخضرمين، أما الأحزاب الحالية فهي ليست سوى أسماء ، و"يفط" فقط لا شيء قبلها، ولا شيء تحتها، ولاشيء بعدها. من عجائب النظام الحزبي في مصر اليوم أيضاً أن جميع الأحزاب القائمة فيه لا تمارس السياسة ! لا الحزب الحاكم ، ولا أحزاب المعارضة . ومن أطرف ما نسب إلى رئيس حزب المحافظين الجديد قوله أن أهم ما يميز حزبه عن الأحزاب القائمة هو أن هذه الأحزاب "تعمل بالسياسة"، ومعنى ذلك أن حزبه لا ينوي الوقوع في هذا الخطأ !! . ولكن الحقيقة هي أن جميع الأحزاب وليس حزبه فقط لا تعمل بالسياسة بمعناها الصحيح ، ومهما قلبت النظر وأعدت التفكير فلن يمكنك أن تستثني منها حزباً واحداً . وأول الأحزاب التي لا تمارس السياسة هو الحزب الحاكم . والطريف أن الذي يبرهن على غياب السياسة عن أحزاب المعارضة هو الحزب الوطني ، وأن الذي يبرهن على غيابها عن الحزب الوطني هي أحزاب المعارضة ، والواقع يؤكد دعوى كل منهما ضد صاحبه. وربما كان هذا هو الموضوع الوحيد الذي يتفق الطرفان على قول الصدق فيه ، ويختلفان على ما عداه . فبعض مسئولي الحزب الوطني يقولون " إن أحزاب المعارضة تعاني من مشكلة وجود ، وأن عليها أن تثبت وجودها في الشارع المصري" ، وهذا قول صحيح ، ولا يحتاج إلى جهد كبير لإثباته وخاصة بعد سقوطها المدوي في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب؛ وسواء كان الحزب الوطني ذاته هو السبب الرئيسي ، أو السبب الوحيد في تغييب أحزاب المعارضة عن الوجود الفعلي ، أو كانت هذه الأحزاب تحمل في ذاتها عوامل تغييبها عن الواقع الفعلي ، فإن النتيجة واحدة وهي : أن أحزاب المعارضة " غير موجودة فعلياً " وموجودة فقط كأسماء على الورق ، ولا ترقى إلى مستوى "أحزاب الأشخاص" التي كانت إحدى علل النظام الملكي قبل ثورة يوليو. ومعنى ذلك أن نصف النظام الحزبي عندنا ( وهو النصف المعارض) لا يمارس السياسة ، ببساطة لأنه غير موجود . وأحزاب المعارضة ذاتها كثيراً ما تردد على لسان مسئوليها عبارات تؤكد أنها محرومة فعلياً من ممارسة العمل السياسي بمعناه الصحيح ، ولسان حالهم يقول " نحن أحزاب لا تمارس السياسة إذن فنحن غير موجودين" ! على طريقة ديكارت ولكن بالمقلوب " أنا لا أفكر إذن فأنا غير موجود" . وعلى الجانب الآخر يقول معارضو الحزب الوطني إنه ليس حزباً بالمعنى الصحيح لكلمة " حزب سياسي " ، وأنه ليس أكثر من جمعية منتفعين أو شلة مصالح تسعي لتحقيق المصالح الشخصية لأعضائها من خلال النفاق والتملق للسلطة والالتصاق بها ، ويدللون على قولهم هذا بسلسلة طويلة من قضايا الفساد التي تورط فيها بعض أعضاء من المنتمين إلى الحزب ( رشاوى مخدرات استيلاء على أراضي الدولة بغير حق تجارة أسلحة.إلخ). ومعنى ذلك أن النصف الآخر من النظام الحزبي( وهو النصف الحاكم) لا يمارس السياسة هو الآخر. إن معيار الحكم بوجود السياسة من عدمها لدى أي حزب من الأحزاب هو أن يكون لديه برنامج واضح له مؤيدون ، ويعبر عن طموحات الشعب ، وأن يمارس الإصلاح ؛ سواء كان في الحكم أو في المعارضة وفقاً لما تسفر عنه آليات تداول السلطة . ووفقاً لهذا المعنى فإن العمل بالسياسة يعني في أحد أبعاده التأثير في صنع القرار ، وفي تحمل مسئولية الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المستويين الداخلي والخارجي . والسياسة بهذا المعنى غائبة عن عمل الأحزاب المصرية كما أشرنا . ومع العزوف المتزايد عن القراءة ومطالعة الأخبار وبخاصة في أوساط الشباب والأجيال الجديدة تكاد الأحزاب القائمة تبتعد حتى عن وصفها بأنها أحزاب جرائد ، كما كانت توصف بعض الأحزاب التي نشأت قبل ثورة يوليو 1952. وتبقى فقط كما قلنا "أحزاب أسماء" ويفط فقط. ومن حسن الحظ أو من سوئه لا أدري أن هذا الوضع الحزبي المفرغ من السياسة في مصر يصادف موجة من تآكل دور الأحزاب السياسية في أغلب بلدان العالم ، وفي مقدمتها البلدان الرأسمالية ذات النظم الليبرالية الديمقراطية القائمة على تعدد الأحزاب والتداول السلمي والدوري للسلطة. ولكن أسباب تآكل السياسة من الأحزاب هناك غير أسبابها عندنا . هناك تحول جذري يحدث بعد أن استوت التجربة الحزبية وبلغت درجة متقدمة من النضج والتطور ، وهذا التحول يشهده النموذج الليبرالي ببطء في مجال المشاركة السياسية باتجاه عقد اجتماعي تعددي يضم النخب الحكومية، ونخب جماعات المصالح ، والأحزاب باعتبارها في هذه الحالة واحدة من جماعات المصالح . هناك أيضاً غياب تدريجي للنقاش الحقيقي، والافتقار لمنافسة سياسية حرة ، الأمر الذي يؤدي إلى ترك الهيئة الناخبة أمام خيارات محدودة جدا ً، وضيقة للغاية ، مع تزايد الشك في السياسيين، واتساع ظاهرة اللامنتمين الذين لا يشاركون في التصويت إلى جانب ذوي الأصوات المستقلة، ومن ثم نشوء الحركات الاجتماعية الجديدة لتقوم بأدوار آخذة في الاتساع محلياً وعالمياً. أما عندنا فالنظام الحزبي ولد كسيحاً ، ولا يزال يحبو بالرغم من مرور أكثر من ربع قرن على مولده في ظل التجربة الحزبية الحالية. عندنا أحزاب لا تعمل بالسياسة منذ لحظة ميلادها ؛ فلا هي قدمت برامج حقيقة تستقطب ولاء قطاعات مؤثرة من الجماهير ، ولا هي قادرة على التأثير في صنع القرار ، ولا هي مدعوة للمشاركة في تحمل مسئولية الحكم واختياراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويبدو أنه عندما يحين وقت نضج الأحزاب عندنا وتمارس السياسة فعلاً ستكون الأحزاب قد انقرضت من العالم وحلت محلها أشكال أخرى للعمل السياسي . وإذا ظلت الأحزاب المصرية القائمة على حالها الراهن " أحزاب بلا سياسة " ، أو " أحزاب أسماء ويفط"، فإنها لن تكون شريكاً في أي عملية إصلاح ؛ إذ لا إصلاح بدون سياسة . الإصلاح المطلوب في أي سياسة ليس مجرد هدف من أهدافها أو جانب من جوانبها ، بل هو السياسة نفسها . وإذا غاب الإصلاح عن السياسة فلا سياسة ، وإذا غابت السياسة عن الأحزاب فلا إصلاح . [email protected]