لو كنتُ من الرئيس مبارك، وقرأتُ قرار لجنة شؤون الأحزاب برفض حزب الوسط الجديد لرابع مرة خلال ثلاثة عشر عاماً، لأمرت فوراً، ودون تأخير، باستصدار تشريع يقضى بحل هذه اللجنة، وشطبها من الوجود، ولأمرت أيضاً بفرم جميع أوراق هذه اللجنة والتخلص منها، واعتبارها كأن لم تكن، ولأمرت بأن يكون تأسيس الأحزاب بطريق الإخطار لا الرخصة مثلنا مثل بقية بلاد الله الديمقراطية فى العالم. وساعتها سأشعر بالارتياح لأن كابوساً قد انزاح من على صدر مصر والمصريين، ولأن باباً من أبواب الحرية والتقدم قد انفتح على يدىّ. ما حدث على يد لجنة شؤون الأحزاب التى رفضت حزب الوسط هو «توسيط» على الطريقة المملوكية لمشروع حزب الوسط. التوسيط المملوكى له حكايات مرعبة ترجع إلى ستة قرون مضت من تاريخ مصر على الأقل، يحكيها المؤرخون أمثال ابن إياس فى كتابه «بدائع الزهور فى وقائع الدهور»، وابن تغر بردى فى كتابه «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة»، ومن حكاياتهم نفهم أن «التوسيط» كان طريقة ذائعة من طرق إعدام الخصوم والمعارضين لدى الأمراء والسلاطين. وكانت عملية «التوسيط»، تتم بإحضار الضحية وتوقيفه غالباً فى منطقة «الرملة» بالقلعة، ثم يأتى السياف فيقوم بشطره بالسيف إلى نصفين من منتصف الجسم، فينفصل نصفه الأعلى برأسه، ونصفه الأسفل بقدميه، ولما كان خروج الروح يستغرق بعض الوقت بعد عملية التوسيط، فقد كان الضحية يُعذب أيضاً برؤية نفسه نصفين قبل أن تصعد روحه إلى بارئها. وكم عانى مشروع «الوسط» منذ بزوغه من عمليات التوسيط المملوكى على يد الأقارب والأباعد!!. ولكل جهة طريقتها وأهدافها فى «التوسيط»، ولكن الجميع ينفذونه بسيوف صَدِئة مغمدة فى حسابات شخصية، أو فى تأويلات قانونية. من يقرأ برنامج تأسيس حزب الوسط الجديد، يجد بأيسر نظر أنه مستوف لكل الشروط التى وردت فى قانون الأحزاب، وبصفة خاصة، الشرط الذى نصت عليه المادة الرابعة فى فقرتها الثالثة وهو «أن تكون للحزب برامج تمثل إضافة للحياة السياسية وفق أهداف محددة». برنامج الحزب يتضمن أفكارا جديدة وغير مسبوقة فى أى من برامج الأحزاب المصرية القائمة، ومنها مثلاً: السعى لتحقيق التوازن بين قيمتى العدالة والحرية، وإدماج الأخلاق فى سياسات الإصلاح، وتحديد وجهة محددة للسياسة الخارجية المصرية وفق مجموعة من المبادئ التى من شأنها رفع مكانة مصر الدولية واستعادة دورها الإقليمى والعالمى. ولكن يبدو أن اللجنة قرأت ما فى رأسها لا ما فى البرنامج، وأصرت على توسيط الوسط على الطريقة المملوكية، فشطرته نصفين، وقالت إنه مرفوض «شكلاً»، و«موضوعاً»، شكلاً لأن أسماء المؤسسين نشرت «بخط صغير لا يرى بالعين المجردة»، وموضوعاً لأن البرنامج لا ينطوى على إضافة للحياة السياسية وفق أهداف وأساليب محددة يمكن أن تكون علامة عليه، ودالة على كينونة ذاتية ينفرد بها عن سائر الأحزاب. لن نقف عند الرفض الشكلى كثيراً لأنه مثير للضحك، ومثير للشفقة أيضاً على أعين أعضاء اللجنة الموقرين، وعلى أى حال فإن تقرير اللجنة افترى تأويلًا عديم المنطق لا ينسجم مع نصوص قانون الأحزاب ولا مع روحه، عندما عللت رفضها الشكلى بسبب صغر الخط بأنه لم يتح الفرصة للجمهور «أن يحكم على صلاحيتهم للقيام بهذا العمل» (المقصود عمل الحزب أو تأسيسه). وهذا التأويل جامح جانح شاطح بعيداً عن نصوص القانون وروحه؛ إذ ليست الحكمة من نشر الأسماء تمكين الجمهور من الحكم على صلاحية المؤسسين، وإنما هى لإعلام هذا الجمهور بالمشروع الجديد وبالقائمين عليه من جهة، ولإتاحة الفرصة لمن لديه اعتراض على حسن سير وسلوك أحد المؤسسين أن يتقدم بشكوى للجهات المختصة كى تقوم بالتحقيق فيها، وفى هذه النقطة تحديداً، وبافتراض وجود شكوى أو اعتراض من أحد المواطنين على واحد أو أكثر من المؤسسين، فإن قانون الأحزاب يعانى من عوار تشريعى يتمثل فى عدم النص على الإجراء الواجب القيام به فى هذه الحالة، فضلاً عن أن أحداً من المواطنين لم يتقدم بشكوى، أو اعتراض على أى من مؤسسى هذا الحزب، ولا غيره من الأحزاب القائمة. أما الرفض الموضوعى فبالرغم من أنه مثير للسخرية، فإن الحجج التى ساقتها اللجنة هى ذاتها مسوغات قيام أى حزب سياسى محترم، ويتوقع له دور مؤثر فى الحياة السياسية. فاللجنة ساقت أربع حجج أساسية للقول بأن البرنامج لا ينطوى على إضافة للحياة السياسية، ومن ثم فهو فاقد لشرط التميز حسبما يقضى قانون الأحزاب، وكل حجة هى أفضح من أختها للجنة شؤون الأحزاب: الحجة (الفضيحة) الأولى تقول إن بعض ما ورد فى برنامج الوسط «مكرر معاد على الساحة السياسية، ويتبناه عديد من الأحزاب القائمة». والفضيحة هنا هى فى إقرار اللجنة بصريح العبارة أن هناك عديداً من الأحزاب القائمة يتبنى ما يدعو إليه برنامج حزب الوسط، وهذا اعتراف من اللجنة بأنها سبق أن وافقت على عديد من الأحزاب التى تتبنى نفس الأفكار، وتغاضت عن شرط التميز، بدليل قولها إن هناك عديدًا من الأحزاب يتبنى الأفكار نفسها!! الحجة (الفضيحة) الثانية هى قول اللجنة إن بعض ما ورد فى البرنامج، «نص عليه الدستور المصرى». وهذه فضيحة بجلاجل؛ لأسباب كثيرة أهما سببان: أولهما أن قانون الأحزاب نفسه اشترط فى الفقرة الثانية من المادة الرابعة «عدم تعارض مبادئ الحزب أو أهدافه أو برامجه أو سياساته أو أساليبه فى ممارسة نشاطه مع الدستور، أو مع مقتضيات الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى والنظام الديمقراطى». وتقرير اللجنة ينعى على برنامج الحزب أن بعض ما ورد فيه أن الدستور نص عليه أو تضمنه!!. ولا ندرى ما الذى تريده اللجنة الموقرة؟ وما عساها أن تقول لو أن البرنامج تضمن أفكاراً أو مبادئ أو أهدافاً مخالفة للدستور، أو متناقضة معه؟ وهب أن برنامج الحزب تضمن شيئاً من ذلك ووافقت اللجنة عليه - حسب منطقها المعوج - أليس من الأصوب أن تسمى حينئذ «لجنة الانقلاب على الدستور» بدلا من «لجنة شئون الأحزاب»؟!. الحجة (الفضيحة) الثالثة هى قول اللجنة إن بعض ما ورد فى البرنامج «تعمل الدولة على تنفيذه»!!. ومعنى ذلك أن اللجنة الموقرة إما أنها تعتبر «الدولة» ممثلة فى بيروقراطيتها العامة، أو فى الحكومة الناطقة باسمها مثلاً، منافساً حزبياً فى الساحة السياسية، أو أنها من فرط تشبعها بتوحد صورة الحزب الوطنى الحاكم مع صورة الدولة رأت أن الدولة هى و»الوطنى» شىء واحد؟. وأى من الاحتمالين يعنى فضيحة أخرى بجلاجل للجنة شؤون الأحزاب؛ إذ يتحدث قانون الأحزاب عن شرط تميز برنامج الحزب عن بقية «الأحزاب السياسية القائمة»، وليس عن أى جهة أخرى لا من قريب ولا من بعيد. الحجة (الفضيحة) الرابعة، هى قول اللجنة إن ما ورد فى البرنامج بشأن إدماج الأخلاق فى سياسات الإصلاح «هو أمر مسلم به، وحرص الدستور على النص عليه... وهذا الجانب مردد فى أفواه الناس جميعاً، ويتبناه الأفراد والجماعات، وتحرص الدولة على حمايته». ومحور إدماج الأخلاق فى سياسات الإصلاح هو الوحيد الذى لم تجرؤ اللجنة على القول بأنه معاد مكرر عند عديد من الأحزاب القائمة؛ إذ لا توجد أدنى شبهة يمكن أن تنفذ منها اللجنة للقول بأن حزباً ما لديه هذه الرؤية، ولهذا حاولت التملص من هذا المأزق بحجة أنه «مردد فى أفواه الناس جميعاً»!!. وهذه الحجة وحدها كافية لتأسيس حزب جديد، طالما أن ما ينادى به مردد فى أفواه الناس جميعاً وغير مردد (بتعبير اللجنة الركيك) عند أى من الأحزاب القائمة؛ فالأحزاب لا تقوم إلا لحمل أحلام وآمال وتطلعات المواطنين، أو قطاعات واسعة منهم، ومحاولة وضعها موضع التطبيق عبر المشاركة فى تحمل مسؤوليات الحكم وفق الدستور والقانون. حجة أن ما فى برنامج الحزب عن إدماج الأخلاق فى سياسات الإصلاح مردد فى أفواه الناس جميعاً هدية أهدتها لجنة شؤون الأحزاب لمؤسسى حزب الوسط دون أن تدرى، ودون أن تقصد، ولو لم يكن هناك سوى هذه الحجة لكانت كافية كى تسوغ قيام الحزب، وهى كافية لإدانة قرار لجنة شؤون الأحزاب برفضه. لكل ما سبق نقول إن ما فعلته لجنة شؤون الأحزاب هو «توسيط للوسط» على الطريقة المملوكية، ما فعلته يبرهن على أن هذه اللجنة كارهة للاعتدال والوسطية، كارهة لأى تكوين سياسى يكون قادراً على تمثيل طموحات الشعب وآماله، ومتطلعة لبرنامج يشذ عن الدستور وينقلب عليه، ولا يعبر عما يدور فى عقول المواطنين أو يداعب أحلامهم، لهذا لو كنت من الرئيس مبارك لم أكن لأتردد فى الأمر بحلها، و«توسيطها» توسيطاً قانونياً، لا مملوكياً، إنصافاً لمصر والمصريين.