قصة : محمد عثمان أنه عندما شوهدت شهرزاد آخر مرة تعبر بوابة القصر وتعدو باتجاه النهر، كان ذلك في تمام الرابعة عصراً بتوقيت قوس قزح حسب رواية البصاصين والعسس، اختلفت القصص والروايات، فالبعض قال إنها عبرت باتجاه بلاد الهند والآخر قال إنها توجهت بمكان غير معلوم من صنع خيالها وحدها.. مصادر أدعت أنها لم تغادر القصر أصلاً.. وأن شهريار قد أمر باحتجازها في بئر عميقة داخل سرداب مظلم في أحد الأنفاق السرية التي لا يعرفها غير مسرور وحدة. غير أنه من المؤكد والذي أجهض الاحتمال الثالث تماماً، أن شهريار قد أصابه الجنون، وتملك منه الغضب، وتسلل بهلول لغرفته ليلاً علي اطراف أنامله، وهمس له في أذنيه، فأمر شهريار بأن يحضر له في الحال أهل الحل والربط، من الحكماء والوزراء، وقادة الجيش وأكفأ من في البلاد من المنجمين والعرافة وأن يبحثوا له عن شهرزاد قبل أن يحل المساء، فحكاية البارح التي بدأتها منذ ألف أمس وأمس لم تنهها بعد.. فما كان غير أن بدأ المنادون يهرعون من أقصي الأركان، والغلمان يسيرون خلفهم في صفوف تمتد أميالاً وأميالا، ينادون عليها وهم يقرعون علي الطبول، بين الألواح القديمة وأزيز الرفوف، والصفحات وما بين السطور «أنه يا أهل المدينة الكرام.. اختفت ست الحسن والبيان.. وأنه لمن يجدها له من الملك ألف حمل من الذهب». كانت الأيام تمر، لياليها مثل نهاراتها، والشهر يليه شهر، ولم يعثر لأثر لشهر.. حتي الديك منفوش الريش أصابه الأرق والضجر، وقرر الرحيل في سواد الليل.. فقد شهريار مذاق الحياة وطعم النوم، أهمل في تدبير شئون رعاياه، وبدأ نجم بهلول يعلو ويستطيع، حتي تملك مقاليد وأمور البلاد في سهوة، وأمر بتكسير الأفواه.. وأطبق الليل علي النهار.. وخرجت الشخصيات من حكمتها وتركت نهاية قصتها.. أشيع أن اختلط علي ملوك البحار السبعة الأمر، وفقد السندباد طريقه وضل.. وتسمر علاء الدين أمام جعفر الوزير، وأخذ يهرش في رأسه ويحوم ويزوم، وشابت بينهم الأميرة ياسمين، بكت علي فستانها تسعين.. وتخبط الرخ الكبير في معارج السماء، وأحاط به الدخان.. مصادر أن التبس علي الجن الأمر، هل يخرجون أم يقبعون؟! ثم إذا ولجوا. فماذا يصنعون؟ هل يأمرون أم يؤمرون؟ وظل شهريار وخادمه مسرور يسيرون ليل نهار، يقلبون الكتب والروايات، وحواف المجلدات، حتي رسائل الشاهبندر وقاضي القضاة.. يفتشون عنها بين شرفات الحكاية، وفتحات مسارح العرائس، يقلب في الوجوه «الكاريكتورية» ووجوه «الماريونيت» والظل يعبث في صناديق الموسيقي، وكتب التاريخ القديمة.. ألف سنة وزاد، حتي شاب شعر رأسه وأشتعل شيباً، وخارت قوي مسرور وصار سيفه أثقل من أن يحمله ويحمل قدماه معاً. وإذ هو جالس علي ضفة النهر مغرق في همه، ومنكب علي نفسه، وقد توقف به الحال علي أطراف شرفات الحيرة الضياع، وتملك منه الضجر، فرد صفحات أيامه معها علي صفحة المياه الراكدة.. رجع بذاكرته للياليه التي قضاها معها، وحول أن يتذكر متي كانت آخر مرة يستمع فيها لقصصها التي لم تكن لتنتهي لتبدأ وضحكتها التي كانت تجلجل في أروقة قلبه كل ليلة وليلة.. ولأن في الزمن حكمة وعبرة، ومعه تتغير النفوس وتهدأ الطباع، فلم يعاند ولم يكابر، فوجدت الحكمة مكاناً لها بين ضلوعه، وتسللت معها آلام الوحدة، وقد امتزجا بالحزن الشديد عليها وعلي افتقاده لها. كيف كان يأتي إليها كل ليلة وليلة لا يكترث بفعل أنوثتها، التي كانت تحرص ألا تجعلها مجرد فعل ماض علي الجدران، أو فرصة سهلة لشهوة «المسرور» يصرخ بأقصي قدراته، يشكو لها اضطراباته في إدارة المملكة، مشكلاته التي لا تنتهي، يسطر عنوة في صفحاتها اليومية، نفس الإناس، نفس الموضوعات يناقشها وحده كل يوم، لم تصارحه يوماً أنها لا تستطيع أن تنصت حتي لواحد من أحاديثه الكثيرة المعادة الطويلة، ولم يترك هو لها أدني فرصة حتي تفكر في مشاركته أحاديثه، أو تحكي له عن آخر ما سمعت من ألحان، نسجت من حكايا في فضاء الخيال. كانت تشق لها كل ليلة طريقاً بين النجوم والقمر، ترخي أذنيها لصوت الموسيقي التي كانت تلتقط نغماتها كاملة، تنسي معاً نفسها، وتغسل معها أحزانها، تستطيع أن تفك طلاسمها كلها وحدها، وتحلق بعيداً بعيداً بكل كيانها وأشجانها، تراه من أعلي وترقبه في شفقة، لا يزال غروره يزيد في المسافة التي بينهما وهو علي حاله ، ومازال يصرخ جالساً علي نفس الفوتاي المتكلف رافعاً قدميه، ويديه خلف ظهره، يهدأ ويضطرب ثم يهدأ ليضطرب، يحملق في السقف بعض الوقت ثم يعود ليكمل ما بدأ بنفس الحماسة ونفس الثورة. تذكر كل هذه الحدوتة بتفاصيلها الصغيرة، وقد قرر في طريقه الخروج من الليالي الألف نهائياً، مستنكراً أنه عاش تفاصيلها فعلاً، ولم يستوعب كيف لم يناديها ليلة، ويأخذها بين يديه، ليرقصا سوياً، علي نغمات الليل وأوتاره، وظل يفكر فيها، وغيرها من بعض النساء اللاتي عرفهن، وكل علاقته المضطربة التي لم يكملها دوماً، وفي قصص الحب الفاشلة التي دخلها كلها بدون ترتيب، وبدون رغبة، وخرج منها أكثر دماراً وأقل إنسانية، وقتها فقط ضرب جبينه بيده في قسوة، ثم خرج من كل الروايات متسللاً كما جاء إلي الأبد.. رفع رأسه للسماء وقد زادت السحب، بينما تتمثل له صور كل النساء اللاتي عرفهن، وصوت بهلول، وسيف مسرور، وكلام الناس.. ودروب شهرزاد تمتد أمامه بلا نهاية. محمد عثمان - نوفمبر 2010 ذو القعدة 1431 - القاهرة