المياه فى تعريفها البسيط سلعة حرة، وهبها الله للبشر لاستخدامها فى الأنشطة المختلفة، بعيدًا عن حسابات التكلفة والعائد الاقتصادى. هى سلعة مجانية تتيحها الدولة للزراعة بلا مقابل، ولاستخدامات الشرب بتكلفة زهيدة، لكن تنطبق عليها قوانين العرض والطلب، وتخضع لآليات السوق، مثلها مثل الدولار. جزء من أزمة الدولار يعود إلى اعتبار البعض له كسلعة تجارية، تتعرض للبيع والشراء والمضاربة، والمياه لا يجب أن تتحول أبدا إلى تجارة، تقبل التسعير والبيع والشراء. هى سلعة لها قيمة، وقيمة نادرة تستحق المحافظة عليها، لكنها لا تباع أو تشترى، ولا يجب أن يكون. الدولار سهل الحمل والتخزين وأحيانا التهريب. وسهولة تخزينه تشجع على الاتجار به. لكن المياه تفتقد ميزة التخزين المتوافرة لدى الدولار. اللهم إلا فى بحيرة ناصر، التى تستطيع استيعاب سلسلة فيضانات عالية حتى أقصى سعة لها والبالغة 160 مليار متر. لكن بمجرد إطلاقها تصبح متاحة للاستخدام طوال طريقها إلى الشمال ومنه إلى البحر. التدافع هو الخصم الأول للمياه والدولار. الدولار تتفاقم مشكلته حين يقل العرض ويزيد الطلب، سواء نتيجة ظروف طبيعية أو نتيجة لتلاعب فى السوق لتعطيشها وخلق حالة من التكالب عليه. أما المياه فمشكلتها مزدوجة، حين يقل العرض ترتفع الأصوات بالشكاوى سواء لرى الزراعات أو لتوفير مياه الشرب. والمياه بسرعتها البطيئة تحتاج لتوزيع عملية سحبها على مدار اليوم، وكلما اتسعت فترة توزيع المياه قل الشعور بالأزمة واكتفى الجميع بالرى. فإذا وقع تدافع على السحب خلال ساعات قليلة وفى أيام محددة من جميع المنتفعين ستقع الأزمة، لأن المياه مهما زادت لن تستطيع أن توفى بكل الاحتياجات فى فترة زمنية قصيرة . فى نفس الوقت حين يزيد العرض نتيجة صرف كميات من بحيرة ناصر ولا يتم استخدامها، تقع خسارة فادحة بذهاب تلك المياه إلى المصارف الزراعية ثم إلى البحر. سوق الدولار شديد الحساسية للتسريبات والأخبار غير الحقيقية، حينما تسرى شائعة بنقصه فى الأسواق تحدث عملية شراء محمومة عليه، تؤدى إلى ارتفاع وهمى فى سعره، ولا يعبر عن قيمته الحقيقية. والمياه أيضا تتأثر بالتصريحات، مع انتشار تحذيرات نقص المياه، ومواجهة كارثة مائية، وجفاف منتظر، كل تلك التصريحات تخلق إحساسا بالندرة لدى الفلاحين، لا تؤدى إلى ردعهم عن التوسع فى زراعة الأرز بل يحدث العكس، لأن الخشية من عدم توافر المياه بالترعة يخلق حاجة تكالب على المياه من الفلاح الذى تقع أرضه فى أول الترعة وتمر المياه عليه، فيدفعه الإحساس بالندرة للقيام بعملية رى مضاعف تحت الشعور باحتمال عدم توافرها خلال فترة المناوبة المقبلة. الدولار يتم التحكم فى سعره عن طريق ترشيد الطلب عليه، من خلال تقليل الاستيراد خصوصا للسلع التى لها بديل محلى، أو للسلع الكمالية التى لا ترتبط بحياة السواد الأعظم من الشعب. والمياه يتم التحكم فيها من خلال إدارة رشيدة واعية تهتم بتعظيم العائد الاقتصادى من متر المياه بما يعود بالنفع على الفلاح أولا ثم على الدولة ورخائها الاقتصادى ثانيا. رصيد الورقة الخضراء فى البنك المركزى هو مؤشر مهم على تقييم الوضع الاقتصادى المصرى، ويتناسب معه صعودا وهبوطا. ورصيد بحيرة ناصر من المياه الزرقاء ينطبق عليه نفس القاعدة. حينما ينقص رصيدنا من الدولار يمكن تدبيره بالاقتراض من المؤسسات الدولية أو من الدول الشقيقة. الدولار عملة صعبة والمياه عملة أصعب، فهى لا يمكن تدبيرها بالاقتراض أو الشراء، لكنها تقبل المقايضة طبقا لآليات تأخذ فى اعتبارها المحتوى المائى فى كل السلع والخدمات. فإعداد فنجان من القهوة يستهلك 1,3 متر مياه، وهى التى تستخدم فى زراعة وإنتاج وتعبئة وشحن حبوب البن المستخدمة. وكمية مياه قدرها 1,7 متر لازمة لإنتاج رغيف خبز واحد خلال مراحل تصنيعه: الزراعة والعجن والخبز والنقل، حتى يصل الرغيف إلى مائدة المستهلك. وكيلو اللحم الأحمر يحتاج إلى 13 متر مياه لإنتاجه. وبتطبيق هذه القاعدة ستختلف نظرتنا وتقييمنا لعملية التصدير والاستيراد المرتبطة بالمنتجات الغذائية، أرز وقطن وقمح ولحوم. كما أن تطبيق قاعدة التكلفة البديلة على رصيد المياه يعطى مؤشرا على قيمة ما نملك من دخل مائى. فإذا كان نصيبنا السنوى من المياه المتجددة يبلغ 55,5 مليار متر، وإذا كانت تكلفة توفير بديل لتلك المياه عن طريق تحلية مياه البحر تتكلف دولارا واحدا للمتر الواحد. فالنتيجة أن قيمة مواردنا المائية السنوية المتجددة تبلغ 55,5 مليار دولار. إذا نجحنا فى حل أزمة الدولار سننجح فى تجاوز أزمة المياه.