أين هى الحقائق؟ وأين هو التوجيه؟ وأين هو النقد الذى تنشره الصحافة المصرية الآن؟! أنا أقرأ الصحف كل يوم، وأقرأها وأنا أعلم إلى حد ما بحكم ظروف العمل بعض ما يجرى وراء الستار، فما الذى أجده فى الصحف؟! أنا أقول ودعونا نكن شرفاء مع أنفسنا إنى لا أجد فى معظم الصحف المصرية الآن من الحقائق والتوجيه والنقد إلا بقايا ضائعة تائهة فى طوفان من الأكاذيب والنفاق والضعف، فإن تلمس بعضها الشجاعة يومًا لم يخرج عن حدود اصطناع المجد الرخيص واحتراف البطولات الكاذبة. كان هذا بالضبط بعض ما كتبه الأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل» فى مجلة آخر ساعة (إبريل 1953) التى كان يرأس تحريرها بمناسبة استضافة القاهرة لأول مؤتمر للصحفيين العرب دعت إليه نقابة الصحفيين! قامت الدنيا ولم تقعد وقررت النقابة تقديم «هيكل» لمجلس تأديب بسبب ما كتبه، وتقدم نقيب الصحفيين الأستاذ «حسين أبوالفتح» بطلب إلى محكمة الاستئناف للموافقة على الإجراءات التأديبية ضد «هيكل» وكان ذلك بتاريخ 16 إبريل 1953. وخرجت جريدة الأخبار بمقالة مهمة شرحت فيها المسألة دافعت عن رأى وموقف «هيكل» قائلة: «ربما كان الرأى خاطئًا لكن كاتبه يؤمن به فكيف يعبر عنه؟! هل يمتنع عن إبدائه خوفًا أو مجاملة هل يعرضه على النقابة قبل أن يكتبه أو ينشره، وأن الالتجاء إلى وسائل المحاكمة والإحالة إلى مجلس التأديب عمل من أعمال العنف يتنافى مع طبيعة الصحافة التى تفرض عليها أن تناقش الرأى بالرأى وتدفع الفكرة بالفكرة». والغريب أن عددًا من الصحفيين كتب يتهم هيكل بأنه أساء كثيرًا إلى سمعة الصحافة والصحفيين المصريين بما كتبه! ولم يسكت هيكل أو يتوقف عن الكلام فقد كتب مقالاً آخر أكثر غضبًا وعنفًا (22 إبريل 1953) بعنوان «أين هو مجلس التأديب الذى أحالونى إليه» وجاء فيه قوله: «أريد أن أقف أمام هذا المجلس لكى أكرر له كل حرف قلته فى المقال الذى أحلت بسببه إلى مجلس التأديب وأزيد عليه! أريد أن أكرر له ما قلته من أن «الحقيقة المصرية لم تتعود أبدًا أن تطل برأسها بين سطور الصحف المصرية! ألم أقدم إلى مجلس تأديب لأننى قلت ما اعتقدت إنه الحقيقة فى أمر الصحافة المصرية، واجترأت فجعلت هذه الحقيقة فى تصورى تطل من بين سطور آخر ساعة! لماذا ضاقت صدورنا بالصراحة لأنها كانت صراحة على أنفسنا؟! لماذا ثرنا على الحرية نحن الذين كان يتعين علينا أن نثور من أجلها!» ومضى الأستاذ «هيكل» بصراحة وشجاعة يتساءل: «لماذا يباح لى أن أنقد وزيرًا وأن أنقد حكومة، وأن أنقد عهدًا؟! ثم أُحرم من حقى فى أن أنقد نفسي؟! فى أن أنقد مهنتى؟! فى أن أقول كلمة حق اختنقت فى صدور الناس، لأننا حبسناها عن صحفنا بما لنا من سلطان على سطورها؟! لماذا فتك بالحرية هؤلاء الذين كان يجب أن يكونوا حماتها؟! أريد أن أقف أمام مجلس التأديب لكى أكرر له ما قلته من أن هناك هوة عريضة عميقة من الشكوك بدأت تفصل بين الرأى العام وبين صحافته؟! أريد أن أكرر هذا وأزيد عليه قصة التجربة التى عشتها بعد كتابتى للحديث عن صحافة مصر!! ماذا فعلت نقابة الصحفيين لا بعده؟! وماذا فعل الرأى العام؟! لقد وقفت نقابة الصحفيين ضدى وأحالتنى إلى مجلس تأديب ووقف الرأى العام معي، فتلقيت مئات المكالمات التليفونية والبرقيات والرسائل كلها تشعرنى أنى لست وحدى! هكذا كان رد الفعل عن نقابة الصحفيين، وهكذا كان رد الفعل عند الرأى العام؟! فهل يمكن أن تكون هناك هوة أعمق من هذه وأعرض؟! ولسوف أسأل مجلس التأديب: هل تستطيع نقابة الصحفيين أن تذهب وتزأر الأسود دفاعًا عن حرية الصحافة، بينما مجلس نقابتها يسكت على هذا الوضع؟ وأكثر من هذا يقدم الذى يثور عليه إلى مجلس التأديب؟! أية حرية للصحافة يمكن أن نثور من أجلها؟! ولم تنته الأزمة عند هذا الحد!!