يملك الكاتب النوبى الكبير حجاج أدول مشروع أدبى قوامه الرئيسى الإنسان والمحبة والسلام، عبر هذا الثالوث يعيد حجاج قراءة التاريخ المصري، كاشفًا كيف تحولت مصر من وطن متعدد الثقافات ومتقبلًا للآخر، لوطن تسوده ثقافة أحادية تنفى الأخر وترفض كل ما هو مختلف، تتميز كتابات أدول أيضًا بالحضور البارز للجغرافيا بمعناها الإنسانى حيث كل شخصية تملك تاريخ خاص ووعى مغاير وعلاقة مختلفة بالمدينة والعمران والطبيعية. ولد حجاج أدول فى الإسكندرية عام 1944، وبدأ رحلته مع الكتابة الأدبية عام 1984، وعلى مدار الثلاثين عاماً الماضية، أنتج عشرات الأعمال المتنوعة ما بين القصة والمسرح والراوية والسيرة الذاتية، وأصدر 9 كتب عن القضية النوبية, بداية من كتاب «النوبة تتنفس تحت الماء» عام 1992. حصل حجاج أدول على العديد من الجوائز والتكريمات منها جائزة الدولة التشجيعية عام 1990 فرع القصة القصيرة عن مجموعة» ليالى المسك العتيقة»، وجائزة ساويرس للأدب المصرى عام 2005 عن رواية «معتوق الخير». جريدة «روزاليوسف» حاورته عن مشروعه الأدبى وتفاصيل رحلته التاريخية للعصر المملوكى فى مصر عبر روايته «ثلاث برتقالات مملوكية» التى صدرت طبعتها الأولى عن دار العين، وصدرت حديثًا طبعة جديدة منها عن مشروع مكتبة الأسرة.. وإلى نص الحوار. ■ فى رواية «ثلاث برتقالات مملوكية» أشرت إلى لعنة البراءة والجمال التى أصابت شمس وأمها كيف ترى هذا التناقض بين ما تمنحنا الحياة من عطايا يحدث أن يتحول فى بعض الأحيان لنقمة ومصدر للتعاسة والألم؟ - الجمال بكل تأكيد فتنة مثل المال أيضًا، ومن يستطيع أن يصمد أمام فتنة الجمال والمال يستطيع أن يستغلهما للصالح سواء كان لصالحه أو لصالح المجتمع أما الذى يقع تحت هذه الفتن فإنها تتحول إلى نقمة، فعندما يبرز جمال بعض الفتيات ولا يستطعن تحمل تكلفة هذا الجمال ومسئوليته، نجد الغرور والكبرياء، وفى حالة شمس حدث هذا بالإضافة إلى أنها تحمل جرحا عميقا مما حدث لها ولأمها، فقد كانت أسرتها فى حالة ذل، فقررت أن يكون الجمال سلاحها لتتحول من الذل إلى إذلال الجميع. ■ هل فى تقديرك أن ما منحته الطبيعة للنوبة من جمال وتميز كان مصدر نقمة عليها فى بعض الأحيان؟ - كل موقع فى العالم من الممكن أن يكن إيجابيًا أو سلبيًا، وجود النوبة بين قوتين كبيرتين مصر شمالًا وإثيوبيا جنوبًا، كان هذا من النقاط الضاغطة على المنطقة النوبية وبالتالى ما حدث ويحدث للنوبة يمكن فهمه فى هذا الإطار، ومثلما كان موقع مصر سببًا فى جعلها مطمع الغزاة، فموقع النوبة أيضًا جعلها تتعرض لكثير من المخاطر. ■ فى هذا السياق كيف ترى ما تعرضت له ثورة 25 يناير 2011 من تنكيل وانتقام واستغلال لبراءة وعفوية وشجاعة الشباب؟ - الشباب هم القوى الرئيسية فى الثورة وباقى الشعب ساعدهم ودعمهم، لكن شباب الثورة كانت خبرتهم قليلة ولم يكونوا منظمين بشكل كافي، هذه الثغرات تم استغلالها من باقى القوى المنظمة، ففى الثورة البراءة والشجاعة والحماسة لا تكفي، فالقوة الأساسية ليست فى قوة الحشود بقدر ما هى قوة تنظيم هذه الحشود وهذا ما كان ينقص الشباب. ■ لماذا اعتمدت فى رواية «ثلاث برتقالات مملوكية» على أسلوب الراوى العليم تحديدًا، وألا تعتقد أن هذا الأسلوب فى بعض الأحيان يجعل الشخصيات تنطق بلسان الكاتب بدلًا من أن تعبر بلسان حالها؟ - كل رواية تستدعى أسلوبها الخاص، وبالفعل عندما يكون الأديب ضعيف قد يتسبب الاعتماد على الراوى العليم فى طغيان وعى الكاتب على الشخصيات، ولكن عندما يكون الأديب متمكن يعرف جيدا ماهية فن الرواية وكيف تكون الشخصيات معبرة عن نفسها، فيقوم الأديب بدور «الاشارجي» يحدد متى وأين تظهر أو تختفى الشخصية وكيف تتفاعل مع باقى الشخصيات الأخرى، وهنا تجد أن كل شخصية تعبر عن نفسها بحرية واستقلالية. ■ وصفت المماليك كشخصية «بنبان» و»حفيظ السلولى» وغيرهم بصفات متناقضة ما بين الجمال والقبح والبراءة والخسة كيف ترى هذا التناقض ولماذا اخترت الفترة المملوكية تحديدًا لتكون مسرح لأحداث الرواية؟ - كل منهما كان عكس الآخر فتجد «بنبان» قبيح الشكل ولكن طيب الصفات فقد كان أقرب للسذاجة أما «حفيظ» كان وسيما ولكن داخله كان يتمركز القبح، وبالنسبة لاختيار فترة المماليك تحديدًا، فهى من استدعتني، وكتبت عنها روايتين هما «خوندا حمرا»، و»ثلاث برتقالات مملوكية» وهناك مشروع لرواية ثالثة استكمل تلك الفترة وتنتهى بمذبحة المماليك)، وبشكل عام فترة المماليك بها زخم كبير لما تحويه من أحداث فاصلة تاريخيًا وجغرافيًا ودراميًا، فتجد الغنى الفاحش والفقر المدقع وفيها الكبت الجنسى وفى نفس الوقت يوجد الانفلات الجنسى، فيها تشييد العمارات المهولة العملاقة، وفيها العشوائيات، بها بعض بنود العدل والكثير من الظلم، الظلم الكافر، فيها البطولات والجبن الخسيس، فالفترة المملوكية فترة درامية مأساوية، وهى أشبه بما يحدث الآن فى مصر فنحن نعيش فى «ملهاة / مأساة» كبيرة على كل المستويات. ■ فى كتاباتك هناك اهتمام وشغف كبير بالتاريخ، ما سر هذا الشغف؟ - فى البداية لابد أن أُؤكد أن الأديب ليس مؤرخًا، وأنا شخصيًا لا أكتب التاريخ، وإنما أكتب عن حالة أو لحظة محددة من حالات التاريخ فمن يقرأ رواياتى عن الفترة المملوكية لن يجد الشخصيات المملوكية المعروفة والمشهورة بل سيجد شخصيات أخرى أقوم بتأليفها لتمثل مناخ العصر المملوكى، وما يميز الأدب أنه يعطيك مساحة واسعة لرؤية الأشياء وتحليل الظواهر الاجتماعية وقراءة الماضى واستشراف المستقبل. ■ تناولت فى الرواية قضية المثلية الجنسية التى كانت تعانى منها ابنة شمس وبنبان حاكم الدولة كيف ترى سؤال الجنس فى مجتمعاتنا العربية وبرأيك ما سر كل هذه الهواجس التى تحيط علاقتنا بأجسادنا فى دولنا العربية رغم أن تراثنا العربى به انفتاح كبير على هذه القضايا؟ - الجنس معضلة شائكة تخشى المنطقة العربية كلها البحث داخلها والكشف عنها، كأنها مثل الديناصور الموجود خلف ستار شفاف، بالرغم من كونه موجود ويعوى ويذبح فينا لكننا نحاول التغافل عنه، المثلية الجنسية موجودة فى كل المجتمعات وتزيد فى مجتمعات الفقر والتطرف الدينى فنحن نعيش وسط آلام جنسية وندعى أننا ملائكة. ■ برأيك ما هو سر الهواجس التى تحيط بأجسادنا فى دولنا العربية رغم الانفتاح الكبير فى التراث العربى إلى حدٍ ما؟ - فى تقديرى الأمر مرتبط بالفكر المتشدد والمتطرف، فهذا ابتلاء كبير يمنع العقل من التفكير، فنحن نعتمد على النقل من فترة ظلامية فى تاريخنا، والعجيب أن الظلاميين الذين يعادون الجسد والحياة والحرية، نجدهم يعبدون الجسد بطريقتهم الخاصة فكم من شيخ يدعى النقاء والترفع عن الرغبة الجنسية وتجده متزوج من أربعة، فهو يحتقر النساء ويسجنهم ولكنه يعبد ممارسة الجنس معهم. ■ شاركت فى لجنة الخمسين لوضع الدستور عام 2014 هل ترى أن هذا الدستور أنصف القضية النوبية؟ - إلى حد كبير أنصف الدستور النوبة، مع إقرار مبدأ حق العودة وهو أهم بند فى القضية النوبية، ولكن تفعيل الدستور يحتاج لمزيد من الجهد والتنظيم من النوبيين أنفسهم، وحاليًا النوبيين مفككين مثلهم مثل الشعب المصرى عامة ولن يعود النوبيون إلا بائتلاف نوبى قوى فبدونه سيخسرون كل مجهود فعلوه سابقًا وإن جاءتهم العودة فستكون عودة كاذبة. ■ ما هو دور المرأة فى حياتك وكيف ترى خصوصية المرأة النوبية؟ - للمرأة دور أساسى فى حياة كل إنسان، فالمرأة هى الحبيبة والابنة والأم، ومن يحاول أن يتغاضى عن دور المرأة أو يدفعها للهامش أظنه متخلف عقليًا، أما بالنسبة للنوبة وتاريخها فجانب شاسع منه تاريخ أمومى، حيث كان عصر الكنداكات جمع كنداكة وهى الملكة المحاربة التى تدير شئون المملكة، وفى العصور الحديثة المرأة النوبية لا تقل أهمية عن الرجل، ولكن بعدما هوجمنا من التفسيرات الصحراوية بدأت نداءات الذكورة المتسلطة تصل إلينا بعدما اجتاحت الشمال المصرى. ■ من العادات النوبية أن المرأة لا تتزوج إلا رجلًا نوبيًا هل مازال هذا الأمر قائم، وإلى أى مدى ترى أن هذه العادات تعد نوعًا من العنصرية ورفض الآخر؟ - هذه ظروف موجودة فى كل المجتمعات التى تملك هوية خاصة وثقافة مغايرة تحاول الحفاظ عليها، فتجد ذلك فى البدو وفى الأمازيغ والأكراد، فتلك المجتمعات ترى أن ثقافاتها هى الأفضل ولذلك ترفض زواج المرأة التى هى قلب المجتمع حتى لا تذوب ثقافاتها، وقد كان هدفا من أهداف التهجيرات الأربعة التى أطاحت بالنوبيين تزويج النوبيين من غير نوبيين حتى يحدث تلاشى للثقافة النوبية وتندثر، فكان رد الفعل النوبى التمسك بذاتيتهم، ومن هنا كان رفض الزواج من خارج النوبة. لكن هذا الأمر تغير خصوصًا فى السنوات الأخيرة، فما حدث فى الثلاثين أو الأربعين عام الماضية مع الاختلاط العميق فى المدن بدأ الشباب يتزوج من غير النوبيات وبدأت النوبيات تتزوجن من غير النوبيين، وأنا أظن أن هذا أمر صحى فخطر الذوبان أظنه يذوب قليلًا، وأرى أن أهمية النوبة فى ثقافتها النوبية وليس فى عرقيتها، بمعنى أن النوبة تفتخر بالثقافة النوبية كأسلوب حياة وطريقة تفكير فهذا ما يميز النوبيين وليس التمسك بالعرقية، ومستقبلا فإن العنصر البشرى الذى يتخندق سوف يختنق ويتلاشى ولكى نستمر فى القرن الواحد والعشرين وما بعده علينا أن نتداخل نسبيا بعموم مصر والسودان والعالم. ■ مدرسة التحليل النفسى ترى أن طفولتنا هى من تحدد مستقبلنا وفى رواية «ثلاث برتقالات مملوكية» لعبت الطفولة دور رئيسى فى حياة معظم الشخصيات برأيك هل نحن أسرى طفولتنا؟ - بالطبع نحن أسرى طفولتنا. سنواتنا البكر الأولى من أهم المؤثرات على السنوات التى تليها كلها. ■ كيف كانت طفولتك وما أبرز الذكريات التى مازلت تحملها حتى الآن؟ - هى طفولة تعيسة فى مجملها. الفقر والمرض حاصرا عائلتى لسنوات طويلة. إضافة للجرعات المكثفة من آلام التهجيرات النوبية، وعنصرية وتعالى المجتمع علينا. أهم ذكريات طفولتى اتخاذنا ترعة الفرخة «فرع من ترعة المحمودية» مركزا للعبنا ومخبئا نعود إليه بعد هجومنا على بعض الأطفال من المناطق الأخرى. وتعليمنا الاولى فى السباحة فيه. وهجومنا على الضفادع وهروبنا من الثعابين. وغرق الطفل رجب ابن عم محمود الصعيدى. ■ كيف ترى المشهد الأدبى العام؟ - فى مجال التعليم نمثل أننا نتعلم ولا نتعلم وندعى بأننا نعمل ولا نعمل، وكذلك فى الرياضة نشاهد المباريات ولكننا فى الحقيقة لا نلعب رياضة يمكن لنا القياس على هذا وضع الثقافة والأدب فى مصر، الأكثر شهرة أخذ ويأخذ أكثر من حقه فى الشهرة، والأزمة أن المجاملة والشهرة لا تُبنى أساسًا على قيمة ما ينتجونه من الأدب وإنما ذلك على أمور أخرى. ■ ما هو عملك المقبل؟ - أكتب حاليًا واحدة من أهم مشاريعى الأدبية وأطولها بعنوان «حكايات عبد الرحيم الوسيم»، وهى ملحمة شهرزادية تصل إلى عشرين رواية متصلة منفصلة.