تكمن المشكلة فى عدم قدرتنا على المطابقة بين المعنى اللغوى والمعنى المصطلحى للفظة (كافر) ومشتقاتها: كفر (بفتح الكاف) - كفر (بضم الكاف) - كافرون... إلخ. لفظة (كفر) لغة تعنى «التغطية»، أن يغطى الرجل الشىء، فالفلاح مثلا يغطى البذرة بالطمى، فالتغطية إذن تكون لشىء مادى ملموس أقوم بتغطيته وإخفائه. ولربما تكون التغطية أيضا لشىء غير مادى، غير ملموس ولا محسوس، كأن أقوم بتغطية» فكرة ما «أقوم بإخفائها فى نفسى لا أفصح عنها، ولربما أنكرها» كأن أسمع خبرا ما فتأكدت من مصداقيته لكننى أقوم بنكرانه، وأعلن كذبا أمام الناس أن الخبر غير صحيح. وبنقل اللفظة (كفر) الى المصطلح الاسلامى، نجد أننا أمام استخدامين متناقضين، الأول يخص «الخطاب الإسلامى» الذى يستخدم لفظة (كفر) ومشتقاتها بمعنى يتناقض ومقصودها اللغوى. والثانى يخص «النص الاسلامى المقدس» الذى يتماهى فى عدة صور مع المقصود اللغوى الأصيل للفظة (كفر) ومشتقاتها. لقد دأب الخطاب الإسلامى وهو فى تعريفه: الفكر البشرى المؤول أو المفسر للنص المقدس دأب على خلط الأوراق فى هذه القضية، فبرغم أن المقصود اللغوى للفظة (كافر) ومشتقاتها يشدد على معانى «الإخفاء» و«التغطية» للملموس والمحسوس، إلا أن الخطاب يصر على وسم «غير المسلم» بنعت (الكافر) ولم يغط شيئا. ف(ابن الإسكيمو) الذى ولد على دينه وثقافته لم يغط الإسلام ولم يخفه، بل لم يسمع عنه لا من قريب ولا من بعيد، بل إن (المسيحى) المولود ب(ديار الإسلام) لم تتوافر له حقيقة الإسلام لكى يغطيها فهو مقتنع كل الاقتناع بدينه وما ولد عليه وتربى ومقتنع كل الاقتناع بصواب عقيدته وخطأ ما عداها من أديان، لم يغط الرجل شيئًا إذن، وهكذا، نستطيع أن نمد هذا المثال ليشمل كل الناس بالعالم، فكل معتقد بصحة ديانته وملته وثقافته، وهل أتيحت للناس مثلا القدرات الفرزية والمساحات الزمنية لفرز كل أديان العالم وملله ونحله لكى يفصلوا منها الغث من السمين على وجه الحقيقة؟! وماذا لو توصل الناس للحقيقة بعيدا عن ديانة الإسلام؟! أيعدون (كفارا) إذن بالمخالفة للمقصود اللغوى العربى للفظة «كافر»؟!، يقينا ينقذنا النص القرآنى من هذه المتاهة اللغوية المصطلحية بقوله: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»؟! (يونس 99) وغيرها من نصوص متشابهات ترفض إجبار الناس على الإسلام ولما تتبدى لهم حقيقته. إن صورا من «النص الإسلامى المقدس» تفض الاشتباك فى هذه القضية، فالله «العادل» لا يمكنه - بمقتضى عدله - أن يحاسب الناس على ما لايعرفون، فهو خالقهم، عالم بقلوبهم، عاقل بما يدور بعقولهم، خذ مثلا نص رقم (5) من سورة الصف فيقول «وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذوننى وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم»، أن مفادها فى هذا الخصوص ان موسى يعاتب من عارضه وآذاه وهو يعلم بصدقيته كرسول مرسل من الله، ودليل ذلك لفظ (قد) التى تفيد التحقيق والتوكيد عند علماء اللغة، وبقلب المفهوم فانه لا يحق لموسى أن يعاتب معارضيه بتنكبهم له لأنهم غير متوثقين من إرساليته. خذ مثلا إن شئت النص (78) من سورة آل عمران «ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون»، نص آثر يحقق ما نرمى اليه فى أن الله العادل لا يمكنه محاسبة إنسان على ما يجهل، ولم لا فهو أعدل العادلين، ان الله فى هذا النص يسجل نقطة على حساب هؤلاء الذين علموا الحقيقة لكنهم يكفرونها، هنا تتضح الحقيقة، فلا عقوبة عند الله بجهل، لذا يقول فى نص آخر النص (42) من سورة الأنفال «ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حىَّ عن بينة». إن الله يقدر العدل لانه «العدل» ويأمر بالعدل، وخلق العقل والضمير ليحيى من حيى عن بينة. إن الله - بمقتضى عقلانيته – لا يمكنه أن يستخدم اللغة فى غير مقصودها. إن الله يثبت مقصود لفظة (كفر) ومشتقاتها لتتماهى مع مقصودها اللغوى العربى، ويفض الاشتباكات المذهبية والدينية بين الناس بقوله «يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون» نص (69) سورة الحج. إن (الخطاب الإسلامى) ما زال ينظر للمسألة من خلال النظرة الفقهية العتيقة، فالكافر هو كل من بلغته دعوة الاسلام فلم يقبلها، وهى نظرة تخالف مقصود (النص المقدس) كما عرضنا، فالله يريد «مؤمنين» لا منافقين. ويستمر الخطاب الإسلامى فى مخالفة مقصود الله باستمراره فى اعتماد فقه (دار الإسلام ودار الكفر) وما يتفرع عنه من أبواب. إن خلو الخطاب الإسلامى من مصطلحات «المواطنة» و«قبول الآخر» معلوم بالرجوع للظروف التى أنتجته فى حقب زمنية متراكبة ثم توقف عند آخرها ولم يجد له تطورا. لو أراد الخطاب أن يطور نفسه فليس عليه إلا أن يرتفع ل«النص المقدس» الذى يؤكد على «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» النص (13) سورة الحجرات.