هذا المقال جد لا هزل فيه فإن فى أفعال الحمير من الحكمة ما قد يفتقده فعل كثير من بنى الإنسان، وقد أمرنا الله تعالى أن نأخذ العبرة من جميع مخلوقاته، فإن فى تلك العبرة ما قد يقوِّم سلوك البشر، لاسيما عندما ينجرف سلوك بعضهم إلى ما هو أدنى من سلوك الحيوانات والبهائم، وليس فى ذلك انتقاص من قدر الإنسان أو نيل من كرامته، ولكنه أداة للارتقاء بسلوكه حتى يكون على مستوى الكرامة الإنسانية التى أثبتها الله له حين قال: «ولقد كرمنا بنى آدم»، وقد جاء أمر الله لعباده بأن يأخذوا العبرة من سلوك الحيوان وفعله فى قوله تعالى: «وإن لكم فى الأنعام لعبرة» والأنعام هى البقر والغنم والماعز وليس المراد بها الحصر فى تلك الانواع الثلاثة، بل يدخل معها كل ما يشبهها من البهيمة لأنها أمم أمثالنا، ولها قوانين تربطها بخالقها لتعبده بطريقتها وتسبح بحمده، كما قال سبحانه: «وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» وإذا كانت البهائم كلها محل اعتبار وموضع عظة لبنى البشر، فإن قطاع الحمير من عالم البهائم أشد عبرة وأكثر حكمة، لأن الظن بالحمير أنها مخلوقات غبية، وإن الإنسان إذا شبه بالحمار يكون ذلك التشبيه أكبر أنواع القذف، لأن المشبه بالحمار لا يحمل أمره إلا على الغباء وسوء الفهم، ولهذا قد ينادى المقذوف تارة بالغباء، وتارة بالحمار، فيقال له: يا غبى، أو يا حمار، وإذا ما نودى بهذين الأمرين بخاصة: يا حمار، امتلأ غيظا وتفجر ثورة وألما وهم بالانقضاض على من شبهه بالحمار. ومن يقرأ آى القرآن الكريم التى تحدثت عن الحمار يدرك أن للحمار سلوكا يمكن أن يبرز فيه ملامح التفكير الذى يدل على أن الله قد أودع فيه نوعا من التقدير الذى يحمى حياته وحياة الذين سخره الله لهم، فلا يتصادم مع نفسه ولا يؤذى حياته، أو حياة الآخرين، وقد عكف بعض الناس على دراسة جوانب التفكير فى فعل الحمار وسلوكه وأعجبوا به أيما إعجاب حتى أسسوا روابط لأحبابه وأصدقائه، ومن هذه الروابط: رابطة أحباب الحمير بالمعادى، أو جمعية أحباب الحمير التى كان من أحد أعضائها والمتحمسين لها المرحوم الاستاذ توفيق الحكيم، الذى كان يفخر كثيرا بأنه أحد أعضاء جمعية أحباب الحمير، وكان لهذه الجمعية نظائر فى لبنان، منها جمعية أصدقاء الحمير بلبنان وأذكر فى فترة التسعينيات من القرن الماضى، أن رئيس تلك الجمعية اللبنانية لأصدقاء الحمير، قد حضر فى زيارة لمصر، وكان يرتدى رابطة عنق من الحجم الكبير الذى كان شائعا بحكم قوانين الموضة فى ذلك الوقت، وكانت تلك الرابطة زرقاء داكنة وعليها رسم رأس حمار وكان كلما سئل عن ذلك أجاب بفخر وسرور عن ذلك السؤال بحديث طويل وعميق عن إخلاص الحمير وذكائها وقدرتها على التحمل، ومن ثم يبدو أن فى سلوك الحمير وأفعالها ما يقتضى التدبر وتأمل الآيات القرآنية التى تحدثت عن بعض جوانب أفعال وسلوكيات الحمير. وأول آية تحدثت عن الحمير جاءت فى قول الله تعالى فى وصف فرار المجرمين من سماع الذكر بسرعة فى الآيتين «50 و51 من سورة المدثر»: (كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة» فقد شبههم الله بالحمار عندما يفر من الأسد سريعا أو عندما يستنفر للجرى من أسد. وقد فسر علماء الحيوان ذلك التشبيه بقصد إبراز وجوه البلاغة فى النص القرآنى، والكشف عن بعض وجوه إعجازه فى إطار السلوك الذى فطر الله الحيوان عليه، فقالوا: إن الأسد عندما يقتحم الغابة بقصد الاصطياد تفر منه جميع الحيوانات قبل أن تعرف ما إذ كان المقتحم أسداً أو ليس أسداً، فهى تأخذ قرارها بالجرى عن عمى ودون تقدير للموقف. أما الحمار فإنه لا يشاركها فى الجرى سريعا دون أن يتثبت من حقيقة الموقف، وما إذا كان القادم أسدا أو غيره، بل ينتظر حتى يتبين الأمر، فإذا استبان أنه أسد حقيقة فر مسرعا بخطى مدروسة لا يمكن أن يسابقه فيها الاسد وهنا ينجو منه، أما إذا استبان أن الخطر الذى فرت منه جميع الحيوانات ليس أسدا، فإنه يقف مكانه راسخا ثابتا، ويهز رأسه استخفافا بما فعلته تلك الحيوانات المتسرعة، وربما أصدر نهيقا يعبر عن استخفافه بها، ومن ثم يبدو أن للحمار فهما يمكن أن يزن به الخطر وبقدره ويتخذ من وسائل الفرار منه ما يلائم ذلك الخطر ويؤدى إلى إفلاته منه. وكان الفلاحون ولا يزالون يعلمون من سلوك الحمار، ومن خلال تعاملهم معه أنه إذا ما اعترض سيره قناة ماء تروى الاراضى من المسقى وتعترض الطريق، يدرس سعة القناة فإذا ما استبان له أنه لن يستطيع اجتياز القناة لسعتها امتنع عن تجاوزها حتى لا يقع فيها، وإن وجد أن بمقدوره اجتيازها لا يتردد فى القفز فوقها واستكمال سيره فى الطريق وكانوا يعلمون من فعله أيضا، أنه إذا شبع لا يأكل أبدا، ويمتنع عن الطعام حتى يجوع وذلك بخلاف بعض الحيوانات التى يمكن أن تستمر فى الاكل حتى يصيبها الاختناق أو «تلكم» بلغة الفلاحين، فتمتلئ معدتها ولا يبقى فيها مكان للتنفس فتختنق. والحمار قد يحمل الحكمة وينقل مأثور الحضارة المدونة فى الكتب والاسفار، دون أن يصيبه من خيرها أثر فهو يؤثر الناس والحضارة بأمر لا يستفيد منه وفى هذا من الايثار ما قد لا يوجد فى بعض بنى الإنسان الذين لا يعملون عملا ولا يقدمون شيئا إلا إذا طلبوا الاجر المالى عنه، أو ذكرهم فى مجال الفخر والإشادة، يدل على ذلك قول الله تعالى: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً» فهو يحمل مظاهر الحضارة ولا يستفيد منها وبعض بنى الإنسان يحملونها مثله ويضيعون على أنفسهم فرصة الاستفادة منها مع أن الله قد منحهم عقلا يجعل من العار عليهم أن يحرموا أنفسهم من تلك الاستفادة ولهذا كان مسلكهم أدنى من سلوك الحمار فى تلك المسألة. وفى الحمير زينة تشبه زينة الخيل والبغال، كما أنها أداة للركوب والتنقل والسياحة ففيها ما يجمع بين ضرورات الحياة ومحسناتها أو الضرورات والكماليات قال تعالى: «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون» لكن صوت الحمار مزعج ومنكر بل هو من أنكر الأصوات، كما قال الله تعالى: «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» فنهيقه يزعج دون فائدة، وفى هذا مثل لكل من يرفع صوته بالنعيق دون أن يفيد غيره فيأخذ العبرة من فعل الحمار عندما ينهق ويريح الناس من كلامه وقعقعة فمه. إن كثيرا من الناس ربما ينقصهم أخذ العبرة من فعل الحمار وتصرفه حين يساهم فى بناء الحياة والحضارة وهم يهدمون الحياة ويقتلون الحضارة وحين يزعجون الناس بنعيق أصواتهم دون فائدة ولله فى خلقه شئون.