المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - يعتمد علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»، وقال صلي الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم. إنه الصحابى الجليل عمرو بن العاص بن وائل السهمى -رضى الله عنه- أحد فرسان قريش وأبطالها، أذكى رجال العرب، وأشدهم دهاءً وحيلة، أسلم قبل فتح مكة، وكان سبب إسلامه أنه كان كثير التردد على الحبشة، وكان صديقًا لملكها النجاشي، فقال له النجاشى ذات مرة: يا عمرو، كيف يعزب عنك أمر ابن عمك؟ فوالله إنه لرسول الله حقًا. قال عمرو: أنت تقول ذلك؟ قال: أى والله، فأطعني. [ابن هشام وأحمد]. فخرج عمرو من الحبشة قاصدًا المدينة، وكان ذلك فى شهر صفر سنة ثمان من الهجرة، فقابله فى الطريق خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، وكانا فى طريقهما إلى النبى (فساروا جميعًا إلى المدينة، وأسلموا بين يدى رسول الله)، وبايعوه. أرسل إليه الرسول يومًا فقال له: (خذ عليك ثيابك، وسلاحك، ثم ائتني)، فجاءه، فقال له رسول الله: (أنى أريد أن أبعثك على جيش، فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة صالحة من المال). فقال: يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، ولكنى أسلمتُ رغبة فى الإسلام، ولأن أكون مع رسول الله. فقال: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) [أحمد]. وكان عمرو بن العاص مجاهدًا شجاعًا يحب الله ورسوله، ويعمل على رفع لواء الإسلام ونشره فى مشارق الأرض ومغاربها، وكان رسول الله يعرف لعمرو شجاعته وقدرته الحربية، فكان يوليه قيادة بعض الجيوش والسرايا، وكان يحبه ويقربه، ويقول عنه: (عمرو بن العاص من صالحى قريش، نعم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله) [أحمد]. وقال: (ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام) [أحمد والحاكم]. وقد وجه رسول الله سرية إلى ذات السلاسل فى جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة، وجعل أميرها عمرو بن العاص رضى الله عنه، وقد جعل النبى عمرو بن العاص واليًا على عُمان، فظل أميرًا عليها حتى توفى النبى. وقد شارك عمرو بن العاص فى حروب الردة وأبلى فيها بلاءً حسنًا. وفى عهد الفاروق عمر -رضى الله عنه- تولى عمرو بن العاص إمارة فلسطين، وكان عمر يحبه ويعرف له قدره وذكاءه، فكان يقول عنه: ما ينبغى لأبى عبد الله أن يمشى على الأرض إلا أميرًا. [ابن عساكر]، وكان عمر إذا رأى رجلاً قليل العقل أو بطيء الفهم يقول: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد. وكان عمرو يتمنى أن يفتح الله على يديه مصر، فظل يحدث عمر بن الخطاب عنها، حتى أقنعه، فأمَّره الفاروق قائدًا على جيش المسلمين لفتح مصر وتحريرها من أيدى الروم، فسار عمرو بالجيش واستطاع بعد كفاح طويل أن يفتحها، ويحرر أهلها من ظلم الرومان وطغيانهم، ويدعوهم إلى دين الله عز وجل، فيدخل المصريون فى دين الله أفواجًا. وأصبح عمرو بن العاص واليًا على مصر بعد فتحها، فأنشأ مدينة الفسطاط، وبنى المسجد الجامع الذى يعرف حتى الآن باسم جامع عمرو، وكان شعب مصر يحبه حبًا شديدًا، وينعم فى ظله بالعدل والحرية ورغد العيش، وكان عمرو يحب المصريين ويعرف لهم قدرهم، وظل عمرو بن العاص واليًا على مصر حتى عزله عنها عثمان ابن عفان -رضى الله عنه-، ثم توفى عثمان، وجاءت الفتنة الكبرى بين على ومعاوية -رضى الله عنهما-، فوقف عمرو بن العاص بجانب معاوية، حتى صارت الخلافة إليه. فعاد عمرو إلى مصر مرة ثانية، وظل أميرًا عليها حتى حضرته الوفاة، ومرض مرض الموت، فدخل عليه ابنه عبد الله -رضى الله عنه-، فوجده يبكي، فقال له: يا أبتاه! أما بشرك رسول الله بكذا؟ أما بشرك رسول الله بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال: أنى كنت على أطباق ثلاث (أحوال ثلاث)، لقد رأيتنى وما أحد أشد بغضًا لرسول الله مني، ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار. فلما جعل الله الإسلام فى قلبى أتيت النبى فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، فقال: (مالك يا عمرو؟) قال: قلت: أردت أن أشترط: قال: (تشترط بماذا؟) قلت: أن يغفر لي، قال: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)، وما كان أحد أحب إلى من رسول الله ولا أجل فى عينى منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينى منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأننى لم أكن أملأ عينى منه إجلالاً له، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم ولينا أشياء ما أدرى ما حالى فيها، فإذا أنا مت، فلا تصحبنى نائحة ولا نار، فإذا دفنتمونى فشنوا على التراب شنًّا، ثم أقيموا حول قبرى قدر ما تنحر جزور (الوقت الذى تذبح فيه ناقة)، ويقسم لحمها؛ حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) [مسلم]. وتوفى عمرو -رضى الله عنه- سنة (43 ه)، وقد تجاوز عمره (90) عامًا، وقد روى عمرو عن النبى (39) حديثًا. واصبح عمرو بن العاص والياً على مصر بعد فتحها، فأنشأ مدينة الفسطاط وبنى المسجد الجامع الذى يعرف حتى الآن بأسم جامع عمرو، وكان شعب مصر يحبه حباً شديداً وينعم فى ظله بالعدل والحرية ورغد العيش.