الثنائيات التي قد تدمر مصر يفترض في الديمقراطية أنها (سند وأساس الاستقرار).. لكن الطريق إليها الآن قد لا يمر إلا عبر مرحلة طويلة من (الفوضي).. والفوضي لها أكثر من نسق.. أمني واجتماعي وسياسي.. أخطرها النوع الأخير. (فوضي الأمن) تقضي عليها مؤسسة أمنية فاعلة.. (الفوضي الاجتماعية) تطوقها أوضاع اقتصادية ملبية لاحتياجات الناس حتي وإن لم تلح أمام الأنظار قريباً.. (فوضي السياسة) يمكن أن نتحصن منها بالنضج وقبول معادلات القانون.. لكن الساحة تخلو الآن من معايير النضج.. ولا أحد يحترم القانون. الساسة هم منبع الفوضي الأول.. صراعاتهم تكون مصدر الارتباك العام.. وعلي الرغم من أن كل المتفاعلين علي الساحة الآن يتكلمون عن أنهم (سعاة إلي الديمقراطية) ويرغبون في بلوغها.. إلا أنهم عمليا يمهدون الطريق للعكس.. ويفتحون الباب أمام مزيد من الفوضي.. في ظل تمسك كل منهم بمواقف معقدة.. يظنون أنها سوف تحمي لهم مواقعهم في العصر الجديد. مصر الآن تعيش حالة (ثنائيات متشابكة).. تتخطي في مواصفاتها ما يمكن اعتباره نوعاً من التفاوض الحميد بين القوي في مراحل الانتقال التي تمر بها الأمم.. وعلي الرغم من أن مصر تعيش (زخماً ثورياً) نتيجة لمجريات 25 يناير 11 فبراير الماضيين.. إلا أن السلوك السياسي لأطراف الثنائيات يذهب بنا إلي ما يقترب من الحالة العراقية.. التي نتجت عن عملية غزو شهيرة.. فإذا لم ينتبه السياسيون سوف تكون المحصلة (كارثة).. وهي ما لا أعتقد أبدا أنها كانت في ذهن من سعوا إلي (الفعل الثوري) بعد 25 يناير. الثنائيات المعبرة عن الصراعات واضحة جداً: • المؤيدون للدولة المدنية ضد المروجين للدولة الدينية. • المتطرفون المسلمون في مواجهة المتطرفين المسيحيين. • المؤمنون بهوية مصرية للدولة.. ويعارضهم المعتقدون في هويتها الإسلامية أو العربية. • أنصار الدولة الرئاسية في مقابل أنصار الدولة البرلمانية. • مساندو التعديلات الدستورية أمام معارضيها. • فريق حقوق المرأة في مواجهة من يريد من النساء البقاء في البيت. • الأجيال الشابة ضد الأجيال الأكبر سناً. • الصحافة القومية مقابل الصحافة الخاصة. • أنصار الاقتصاد الرأسمالي في مواجهة التوجهات اليسارية. • المؤسسات المدنية ضد الاتجاهات الأوتوقراطية. • مؤسسات الدولة ضد مجموعات وكيانات لا تريد أن تنضوي تحتها. هذه هي أغلب الصراعات الرئيسية، وهي لا تنفي أن داخل كل فريق في مواجهة الآخر هناك فرق تتصارع تحت مظلة كل اتجاه.. مثلاً المروجين للدولة الدينية بينهم الآن خمسة أو ستة فصائل قد تفجر بعضها البعض.. وفيما بين الشباب الراغبين في التمرد علي الأجيال الأكبر عشرات من التوجهات.. وفي مؤسسة الكنيسة مجموعات مختلفة بينما في داخل المجموعات الإسلامية أطياف متنوعة بينها صراعات وخلافات وتعارضات.. وهكذا. ومن الطبيعي أن يتناثر هذا التنوع في أي مجتمع حر، وأن يدور الصراع السلمي وفق قواعد القانون، لكن المشكلة تكمن في أربعة أمور علي الأقل: • أولاً: إن الجميع يريد تغيير كل القوانين التي تستند إليها التفاعلات في نفس الوقت وفوراً.. والكل يريد أن يتم ذلك وفق مصالحة.. وهو أمر مستحيل.. في ظل غياب آلية التفاوض الشرعية (البرلمان). • ثانياً: إن الجميع يعتقد أنه يملك الحقيقة وحده.. وأن الشارع معه وليس مع غيره.. وهذا ضرب من الخيال. • ثالثاً: إن الجميع يخوض الصراع متجاهلا العامل التاريخي والخبرات السابقة.. ويظن أن الأمم تبدأ من أول السطر.. متخطيا أن مثل كل تلك النقاشات قد سبق لدول ومجتمعات أن خاضتها.. وهذا نوع من السذاجة والرومانسية. • رابعاً: إن الجميع يريد أن تكون النتيجة هي أن يفوز وحده.. ويعتقد أنه يمكن أن يحتل الساحة منفردا بلا منافس. وهذا خيال آخر. لم تمض علي اكتمال (الفعل الثوري) المصري سوي أيام قليلة بعد مرور شهر، وإذا كان الله نفسه بكل قدرته سبحانه وتعالي قد خلق العالم في ستة أيام، فإن المتصارعين في هذه الثنائيات المصرية يريدون أن ينتجوا مصر جديدة في لحظة.. ويتجاهلوا مجموعات من الحقائق التي يعني اغفالها تقويض كل شيء.. وخسران الجميع: • الحقيقة الأولي: أن أي نتيجة فيها أي قدر من الإخلال وعدم التوازن بين فئات المجتمع سوف تقود إلي (فوضي راسخة).. وليس(فوضي مؤقتة وعابرة).. ما يدمر كل شيء. • الثانية: إن عديداً من الأجندات المطروحة علي المجتمع هي بطبيعتها (نخبوية) لا تحظي بالاهتمام العام للناس.. ما يعني أنها تفتقد الظهير الجماهيري.. علي الرغم من أن (الفعل الثوري) الذي قاد إلي نشوء التفاوض بين المتصارعين نتج عن فعل حظي بزخم جماهيري شامل. • الثالثة: إن البيئة الثقافية والتعليمية للمجتمع من الهشاشة بحيث إنها لا يمكن أن تلاحق هذه الطموحات التي يسعي إليها المتصارعون أو المتفاوضون.. ما يعني أن طاقة الاستيعاب العام أقل بكثير من قدرة الاحتمال المتوقعة.. وهذا يحدث خللا أكيداً.. ويجعل من الديمقراطية التي نسعي إليها ( قشرية) و(فوقية).. في حين أن الجميع يريد اتساع رقعة المشاركة. • الرابعة: إن المصالح المباشرة لعموم الناس قيد التجاهل. • الخامسة: إن كل معايير الوضعية الشاملة للدولة، بكل ملابساتها الإقليمية ودورها المحوري وتأثيرها الشرق أوسطي، ومقومات أمنها القومي، غير مدرجة في أجندات الثنائيات المتصارعة.. حتي لو كان البعض يتحدث عنها لماما. • الحقيقة السادسة: إن هناك صراعات تقوم في الأساس علي تصفية الحسابات السياسية والرغبات الانتقامية.. ليس أكثر. قد يبدو هذا كلاما نظريا، لكنه، عمليا، تشخيص حقيقي للواقع الذي يدور في مصر الآن، وهو يستشرف أفق الخطر التي قد تسبب مشكلات مقيمة لزمن بعيد.. ومعضلات قد تتعزز.. ما لم ننتبه إلي أن هناك مصلحة وطنية شاملة لابد من الاهتمام بها قبل أن ننشغل جميعا بتحقيق مكاسب ذاتية وحزبية ضيقة. هذه دعوة مخلصة إلي التسامي فوق الذاتيات.. والترفع فوق الشخصانيات.. وتأكيد الهوية الوطنية.. وإعلاء المصالح العامة.. والانضواء تحت سماء دولة لم تزل قائمة.. والاحتشاد الجماعي المساند لعملية إصلاح تستهدف التطوير المصري العام.. والوثوق في قدرة إدارة المرحلة الانتقالية علي تحقيق التحول السلمي للبلد.. وليس التحول الذي قد يفجرها إذا ما تم الرضوخ إلي رغبات الجميع في وقت واحد ولحظة واحدة. ( اقرا ايضا للكاتب فى الصفحه الاخيره /عمود ولكن / مقال : السنه والشيعه ..مايجرى فى البحرين ) [email protected] www.abkamal.net