لا أحب تعبيرات مثل الثورة المضادة، فهذا غير حادث علي أرض الواقع، كما لا أحب الدفع نحو فوضي بلا ضابط، فالجيش يحمي الوطن الآن وأراه يمثل الشرعية الثورية، ولا أخشي كثيرا من الممارسة الديمقراطية في المرحلة المقبلة، وأراهن علي وعي وحيوية المواطن العادي. لقد انتصرت مصر، وتبادل الثوار العناق والتهاني، فرحة حقيقية، فقد حاز الثوار، ورجال المؤسسة العسكرية المصرية معا شرف الانتصار وعادت لمصر الثقة بنفسها فقد اجتازت مرحلة الخطر، وستلتقط أنفاسها لتتذوق طعم الحرية خلال أيام معدودة فقد بات الشعب المصري يثق بأن الجيش هو الضامن الحقيقي لتحقيق كل المطالب المشروعة فقد استخدم القوة الصلبة المحترفة الوطنية لضمان حرية حركة المؤسسات التشريعية والقانونية والنقابية وجميع مؤسسات المجتمع المدني. دور الجماعة الوطنية المثقفة الآن التدريب الجماهيري علي الفعل الديمقراطي والمهم أن نكتب ونبدع ونغني للناس لا السلطة. يجب أن نتحول للإعلام التفاعلي ونعود للمسرح السياسي لتفجير طاقات الوعي. وتعبير الجيش كضامن يعكس أن الشعب كله يضمن ويؤيد أيضا أداء المؤسسة العسكرية التي تتكون من أبناء هذا الشعب بالأساس. وكان يجب علي قبل أن أمد بصري نحو المستقبل أن أسعد بتأكيد نجاح ثورة 25 يناير في نقل الشرعية للجماهير، ولأن أحاور أحد الضباط وأحد الثوار وكليهما من الذين أقاموا إقامة دائمة بالميدان، حتي أتأكد بشكل محسوس من أن حديثي عن المستقبل حديث لا يتجاوز عظمة اللحظة الحاضرة. المشترك بين الضابط والثائر أنهما أصرا كل علي حدة علي عدم ذكر اسمه، ليس خوفا، بل إنكار للذات الفردية، لتذوب في المجتمع المتناسق، حيث عاد الناس في مصر الكل في واحد. والمشترك بينهما إعجاب متبادل ببطولة ونبل القصد والأداء والغاية. والمشترك الأهم أن الخطة - إرادة - المستعدة للسيطرة علي المدن ضد الفوضي وهي الخطة التي تعبر عن وضوح الاستراتيجية والتفكير العلمي لدي المؤسسة العسكرية هي خطة تمنح صغار الضباط، حرية التصرف واتخاذ القرار الصائب وهو ما كان واضحا في حزم واحترام وسرعة استجابتهم لأداء المهمة دون عنف أو إيذاء من أي نوع حتي علي المستوي النفسي فقد كان حضورهم هو حضور دافئ مطمئن للجميع، كما أن الثوار كانوا يفكرون بشكل علمي عبر الاتفاق والترتيب عبر الإنترنت، ثم بزوغ عدد لا محدود من القادة وقدرة هائلة علي الحشد الجماهيري لكل أطياف المجتمع، بلا قيادة مركزية ولا شخصية تحمل عبء الزعامة ثم اختفاء القادة وحلول الجماعة الوطنية المنسجمة كبيرة العدد، المبهجة الحضارية التي لا تبحث عن مجد ولا مكسب شخصي. إذا ما طلبت أسماء أعطوك أسماء الشهداء الأبرار وإذا ما طلبت حكايات فردية، قالوا كنا جماعات وإذا ما حييت أحدهم بكلمة يا بطل، قال كلنا أبطال وشكر نبل الجيش المصري وإذا ما شكرت أحد أفراد الجيش، قال اشكروا الثوار. لحظة نادرة وتحول جذري إذن في تاريخ مصر الحديث إنه الواجب الوطني يدعو كل مصري مخلص للإبداع في مجال تخصصه، ولأداء دوره بمتعة وإخلاص، كنا قد افتقدناهما في ظل وجود أردأ عناصر تم اختيارها بمعيار الولاء الأمني والاستعداد لتنفيذ أي مهام تطلب منهم، حتي لو كانت ضد المصالح الوطنية والاعتبارات المهنية لكن حافظت مصر علي عدد كبير من المهنيين الشرفاء، هيأوا الوطن لتلك اللحظة، بعضهم يكافح ضد الهزيمة منذ أكثر من ربع قرن. وها هي أحلامهم تتحقق، وتعود مصر الكبيرة المتسامحة المتحضرة، لا تبغي انتقاما من الماضي، لكن لا تتجاهل ضرورة المساءلة والمحاسبة القانونية والمجتمعية. ولكنها تتطلع للمستقبل بكل قوة كي تعود لتلتحق بأهم مراكز العلم والإبداع في العالم المعاصر، لتستعيد انسجامها وقوتها الاقتصادية ودورها الثقافي وتصنع للمواطن الحرية والرفاهية التي يستحقها، كي يتمكن من لعب أدوارها الإقليمية والعربية بالأساس، وكي يعود حضورها القوي في المشهد العالمي المعاصر، وأول خطوة عملية لذلك هو عودة الحكم المدني لمصر وحلول الممارسة الديمقراطية وهو السؤال المهم للمستقبل القريب والبعيد معا وهو سؤال سياسي ذو طبيعة ثقافية بالأساس كيف يمكن ترسيخ ثقافة المواطنة لدي الإرادة الجماهيرية العريضة، التي حضرت فجأة للاهتمام بالشأن الوطني العام؟ إن قوة الثورة ونجاح التغيير الحقيقي ينبغي أن يضع برامج وخططا عملية تستهدف تغيير الذهنية العامة خارج مشهد الثوار، وطريقة التفكير، حتي يحضر للعقل الجمعي المصري إجابات من نوع لا يهم من هو الرئيس القادم بل المهم هو عودة دولة المؤسسات المهم هو حضور المعارضة لمتابعة أداء الحكومة، وشفافية وفعالية مجالس الشعب والشوري والنقابات المهنية والمجالس المحلية، ومجالس إدارات القطاعات الحكومية والخاصة وعودة الحيوية للمدرسة والجامعة ودور العبادة والإنتاج الثقافي والفني والإعلامي في مصر المهم هو ترك الساحة السياسية لإفراز أحزاب قوية لها حضور جماهيري يحقق فكرة التعددية السياسية ويسد الطريق أمام أي احتكار محتمل للسلطة ورأس المال في مصر. إن تنظيم السلطات التشريعية والتنفيذية والمؤسسات الرقابية في مصر، لو عمل كما ينبغي أن يكون، وأطلقت له الحرية المهنية بعيدا عن تدخل الأجهزة الأمنية، وسيطرة الحزب الواحد علي مقدرات الأمور، واختيار الكفاءات المستقلة الشريفة لأدوار الإدارة المهنية لقفزت مصر قفزة كبيرة للأمام مصر لا ينقصها لا المؤسسات ولا الكفاءات ولا الإمكانات مصر تحتاج للحرية وسيبني أهلها أجمل الأحلام علي أرض الواقع. وبالتالي فعملية التنمية الشاملة المنتظرة، لن يقودها إلا قطار العدل الحر المثقف فتنمية بلا ثقافة أمر مستحيل. فالثقافة هي الضامن الحقيقي لنجاح الممارسة الديمقراطية لأنها تعزز الثقة بالذات والآخر، وتنمي لدي الفرد الإحساس بضرورة مراقبة وملاحظة ومحاسبة نفسه بنفسه، فلم يعد هناك أحد في مصر فوق القانون. والحضور الحي للقانون يضمن تكافؤ الفرص والحد الأدني للأجور، وحق العمل والسكن والحب والزواج، وحق التعليم المستمر. فتتحسن الأخلاق، وينضبط السلوك، ويتأكد كل ما حضر نبيلا وعميقا وإنسانيا من تراثنا الحضاري القديم الذي نفض عن نفسه كل شوائبه وتألق في أبهي صورة، ليبدد كل اليأس وكل الصور السلبية عن الذات القومية التي كدنا أن نصدقها إننا أجمل وأكثر حضارة مما كنا نتصور، إننا أكثر وعيا مما كنا نحلم، إننا حقا نستحق الحرية. مشروعاتنا المكتملة لتطوير التعليم العام، والبحث العلمي أصبحت قيد التنفيذ، لكنها تحتاج لوقت طويل. أما مشروعنا الحاضر الحالي الذي لا يحتاج لجهد تنظيمي كبير ولا لجهد إداري معقد هو تعليم الجماهير العامة معني الممارسة التطبيقية للديمقراطية، وهو دور الجماعة الوطنية المشتغلة بالثقافة، سواء في المؤسسات الرسمية أو المدنية وهو يقتضي وضع تدريبات تطبيقية مبسطة علي الفعل الديمقراطي، مثل شرح معني التعددية السياسية ومعني الأحزاب ودورها وما هو الدستور، وما هي الحقوق وما هي الواجبات، التي تؤثر في فكرة المواطنة؟ وهو أمر لابد أن يتجاوز ذلك الانفصال التاريخي في مصر بين أداء المؤسسات الإعلامية والثقافية. فالإعلام لابد أن يحمل الوعي الثقافي السياسي للناس ويرسخ لفكرة الإعلام التفاعلي الذي يجعل الجمهور مشاركا وذلك بخطط علمية تحذر الملل والثرثرة والنمطية والتكرار، وهذا الدور للمسرح المصري الحقيقي في قدرته علي تحقيق مسرح المشاركة السياسية وإعادة تفجير الوعي العام الصحيح لدي المعزولين ثقافيا بالذهاب إليهم في تجمعاتهم المختلفة. لا يعنينا هنا مخاطبة السلطة ولا النخبة بل يهمنا وللمرة الأولي منذ عقود طويلة أن نكتب ونبدع ونغني ونرسم للناس في مصر وهو الفعل الثقافي الذي هربت منه النخبة الثقافية والفنية والإعلامية في مصر لسنوات طويلة، فالقدرة والقوة والمستقبل والشرعية في مصر الآن عند الناس لقد حضرت إرادة الجماهير العامة، فهيا نؤدي واجبنا معها نحو الوطن، لضمان غياب الممارسات القبلية والطائفية والولاءات التحتية وشراء إرادة الناخبين أو خداعها وتغييب وعيها، وهي الصور التي رحلت، كما رحلت لغة القوة غير المشروعة لكسر الإرادة الإنسانية في مصر مع حضور النور والحرية، إنه صندوق الانتخابات الحر أمل المستقبل ورهانه الحقيقي؟