مازال البعض يعتقد أن أفلام التحريك «التقليدية أو المنفذة باستخدام تقنية البعد الثالث» لا تخص سوي الأطفال، وكأنهم لا يستطيعون أن يبعدوا عن أذهانهم حكايات «ميكي» ومغامرات «توم وجيري»، الحقيقة أن هذه النوعية من الأفلام حققت طفرة هائلة شكلاً ومضمونًا، وأصبح من المستحيل مثلاً أن تعتبر الفيلم الإسرائيلي «الرقص مع بشير» فيلمًا موجهًا للأطفال، كما أن هناك أفلامًا مأخوذة أصلاً عن قصص للأطفال، ولكنها تحتمل مستويات أخري للتفسير والتأويل، أحد أهم النماذج لتلك الأفلام، فيلم التحريك ثلاثي الأبعاد الذي يحمل عنوانًا طويلاً هو: «legend of the gardians:the owlsafgahoer» ، أو كما عرض تجاريا تحت اسم مختصر هو «أسطورة الحراس». من ناحية الشكل نحن أمام فيلم تحريك شديد الإبهار والإتقان مأخوذ مباشرة عن روايات ناجحة للأطفال كتبتها «كاثرين لاسكي»، أما من حيث المضمون فنحن أمام فيلم كثيف المضمون متعدد المستويات في التلقي، هناك حدوتة مسلية وكائنات ظريفة وبعض لحظات الكوميديا، ولكن هناك إسقاطات واضحة علي أحداث سياسية أو تاريخية أو حتي دينية، هناك إنتاج فخم ضخم يكلف حوالي مائة مليون دولار، ومخرج متمكن قدم من قبل أفلامًا ناجحة هو «زاك سفايدر» مخرج «300 اسبرطي» و«وتش من» ولكن هناك أيضًا وراء هذا الطوفان من الثراء البصري واللوني حشدًا من الأفكار المهمة، لعل أهمها أن الماضي ليس تراثًا مدفونًا في الكتب ولكنه هو الذي يصنع المستقبل، ولعل أجملها أنه لا هدف مع الذين يريدون أن يحولوا الضعاف إلي عبيد تحت أي مبرر من المبررات، فالضعف ليس مبررًا للتحكم والسيطرة، ولعل أعمق أفكار الفيلم وأكثرها مدعاة للتأمل أن كل إنسان يستطيع أن يحقق أسطورته الخاصة بالعمل وبالحلم، والحلم بالتحديد هو أحد محاور الفيلم الأساسية، لدرجة أننا لا نستطيع أن ننسي العبارة التي تردد في البداية بأن حلمك هو الذي يحدد هويتك، وبالطبع فإن كل هذه الأفكار، وكل الرموز والإسقاطات، لا يشترط أن تصل إلي كل الجمهور، فمن يصل إليه المستوي الأول حيث الصراع بين الخير والشر فلا بأس، وسيستمتع كثيرًا بالفيلم، ولكنه سيستمتع أكثر لو تأمل قليلاً ووصل إلي المستوي الأعمق، وهكذا يبدو كما لو أننا أمام عمل كثيف موجه للكبار وللصغار معًا، وهذا ما لاحظته من قبل عند تحليل فيلم «أغاني الكريسماس» للمخرج «روبرت زيمكس» المأخوذ عن قصة شهيرة للراحل «تشارلز ديكنز». سيناريو الفيلم الذي كتبه «جون أورلوف» و«إميل ستيرن» ينجح في جعل عالم البوم - هذا الكائن الجميل الذي نظلمه بالتشاؤم - معادلاً لعالم الإنسان، أي أننا لن نخرج من تلك اللعبة التي تستعير عالم الحيوان أو الطيور للتعبير عن عالم الإنسان، وبطل حكايتنا بومة صغيرة اسمه «سورين» ينشأ في كنف والده، «أزيرلب»، ويمتلئ خياله بحكايات أسطورية يحكيها الأب عن حراس شجرة هائلة هي شجرة «جاوول» تجتمع فيها أعداد من البوم الأحرار الذين نجحوا في هزيمة البوم الشرير، كان ذلك بعد معركة أسطورية انتصر فيها القائد الأسطوري «لايز» ابن «كيل» علي البومة الشرشة ذات المخالب المعدنية، ولكن هذه البومة مازالت موجودة وتهدد الجميع، الحكاية إذن تبدأ من الأسطورة التي تقدم هنا كعمل خارق وخيالي رغم أن الحديث عن الاستعباد والسيطرة سيجعلنا نسقط الحكاية بوضوح علي ما جاء في الكتب المقدسة عن تحرير النبي «موسي» لليهود المستعبدين وخروجه معهم إلي وطن آخر جديد بعيدا عن حياة الرق، ولكن الأهم من الإسقاط أن سورين «البومة الصغيرة» سيقرر أن يتعلم الطيران لتحقيق حلمه بأن يذهب إلي شجرة «الجاوول» التي ظلت حتي الآن في خانة الخيال، وقبل أن يتعلم أي شيء سيتم اختطافه هو وأخيه «كلاد» ليجدا أنفسهما أمام ما يمكن أن نطلق عليه «أكاديمية العبودية»، هناك بومة اسمها «نايرا» بصورت القديرة «هيلين ميرين» تعلم اليوم المخطوف في الخضوع وتنفيذ الأوامر، وتعد من هذا الجيش من العبيد فريقا تقوده البومة ذات الأظافر المعدنية للهجوم علي شجرة «الجاوول». ما هي ترجمة هذه التجربة علي مستوي الحقيقة أو الأسطورة؟ الترجمة هي أن الجبل الأصفر الذي يمثله سورين وكلاد وجدا نفسيهما في ذات الموقف الذي تعرض له القائد الأسطوري «لايز» ابن «كيل» الذي تسلم شعبا من العبيد فجعله من الأحرار، وهكذا يتحول الخيال إلي حقيقة والحلم إلي كابوس، وهكذا يتم اختبار «سورين وكلايد» فيرضخ الثاني ويطيع الأوامر في حين يحاول سورين الهروب مع البومة الأصغر سنا «جيلفي»، ويستعرض هذا الجزء طرق السيطرة التي تحول البوم إلي ما يشبه الكائنات المنومة مغناطيسيا، وعندما تظهر البومة ذات الأظافر المعدنية نستمع إلي الأناشيد الحماسية، وردود الجماهير الموحدة التي تذكرك علي الفور بألمانيا النازية الهتلرية. سواء وصل إليك هذا الإسقاط أو لم يصل فأنت بالتأكيد ستنحاز إلي «سورين ضد كلايد» وسترفض بالتأكيد فكرة التفوق التي يتبناها هؤلاء البوم الذين أطلقوا علي أنفسهم اسم «الأطهار» وسترفض أيضا نظرية البومة ذات الأظافر المعدنية التي تستبيح استعباد الفقراء باسم تفوق الأقوياء عليهم، وستتعاطف حتما مع البومة «جريمبل» الرافض للتهاون في داخله، ولكنه يضطر إلي ادعاء الانحياز للأطهار لأنهم أخذوا أقاربه كرهائن، ويدفع «جريمبل» ثمنا غاليا عند اكتشاف خديعته، والأهم أنك ستبدأ مع سورين وصديقته الجميلة «جيلفي» وبعض أصدقائهما رحلة طويلة في الطريق إلي شجرة الميعاد العملاقة «جاوول»، هنا تريد جريمة الكوميديا قليلا التخفيف من شراسة الأحداث وربما دمويتها، وستتعهد البومة اللطيفة المرافقة «توايلابت» التي تكتب الأغنيات وتقدمها بصوت بشع بمهمة التخفيف من رمادية الصورة، وسنضحك كثيرا علي مواقفها. عندما نصل إلي شجرة «الجاوول» سيبدو القائد «لايز» ابن «كيل» موجودا ولكنه غامض لا نستطيع معرفة ملامحه، وسيصبح في مقدمة الصورة قائده آلوفير «بصوت الممثل سام نيل»، ولكن لن يمر وقت كبير حتي نكتشف أن راوي الأسطورة «إزيزلب» هو نفسه صاحبها «لايز» الاثنان شخصية واحدة، وبالتالي يصبح ما هو من الماضي حاضرا وحقيقيا، وما هو أسطوري يتحول إلي حقيقة من لحم ودم، بل إن هذا الحاضر «إزيرلب» سيقود البوم من جديد إلي الانتصار علي ذي الأظافر المعدنية، وهكذا يقوم الماضي بصنع مستقبل البوم من جديد بدعم كامل من «سورين» ويصبح الشعار المطروح هو: «لا هدنة أبدًا مع الذين يحاولون استعباد الضعفاء»، وعندما ينجح «سورين» في القيام بدور أساسي في المعركة الجديدة، وعندما ينجح في اكتشاف خيانة «الومير» وفي مواجهة الشقيق المتواطئ مع الأطهار «كلاد»، يتحول «سورين» عندئذ إلي أسطورة، وهكذا يصبح الدرس الجديد المهم: الأساطير تصبح حقائق عندما نتعلمها، وكل إنسان يستطيع أن يحقق حلمه ويصنع أسطورته، وطالما أن هناك «نايرا» وصاحب الأظافر المعدنية، فإنه لابد أن يكون هناك «لايز» و«سورين»، وطالما أن هناك «فرعون» و«هتلر» مثلاً فلابد أن يكون هناك «موسي»، والحلفاء الذين تعاونوا علي قهر النازية، لن يتوقف الصراع أبدًا بدليل هروب «نارنيا» رغم مقتل ذي الأظافر المعدنية، ولكن سيظل للماضي وأبطاله وأساطيره فضل إلهام الأجيال الجديدة بالمواجهة دون خوف وبلا تردد وانهيار كما فعل «كلاد»، ألم أقل لكم إننا أمام عمل كثيف رغم بساطة الحدوتة؟! الحقيقة أن هذا التحليل يقربنا كثيرًا من فيلم كتبت عنه هو «10 آلاف سنة قبل الميلاد» حيث يلتقي الفيلمان في مناقشة فكرة الأسطورة والماضي كملهم للمستقبل مع الاسقاطات الدينية أو السياسية، ولكن «أسطورة الحراس» فيلم أكثر إقناعًا وخيالاً، لقد تم بناء عالم كامل تلعب فيه الطيور والحيوانات أدوارًا لا تنسي، يكفي أن أقول لك إن الأفعي «بي» الوديعة هي التي قامت بتربية «سورين» في طفولته، ويكفي أن أحلامك عن التفصيلات المذهلة في ملامح البوم وعلاقة شكل العين وحركتها مثلا بطبيعة الشخصية، «سورين» مثلا عيونه حية يقظة في حين تبدو عينا الشقيق المتواطئ «كلاد منكسرة»، هناك تتابعات بأكملها تصلح كأفلام قصيرة مثل مشهد تعلم «سورين» و«كلايد» الطيران، ومشهد المواجهة الدموية بينهما، ومشاهد الفوتو مونتاج للرحلة الطويلة إلي «جاوول» وتستكمل أصوات النجوم والنجمات التأثير علي المتفرج بمعاونة موسيقي رائعة تتخللها أصوات الكورال «موسيقي من تأليف ديفيد هيرشفيلدز»، ولاشك أن استخدام تقنية «البعد الثالث» أعطت الحكاية بعدها الخيالي الأسطوري بوضوح، وجعلنا في مشاهد كثيرة في قلب الغابة التي تدور فيها الأحداث، لم نشعر في لحظة بتعب في العين ونجد مشاهد الصورة مجسمة، كل عنصر تم توظيفه باقتدار، وكل مشهد يأخذك إلي المشهد التالي، في تسلسل بديع، قد تتوقف عند الاستمتاع بانتصار الخير والشر، ولكن يا سلام لو تأملت قليلا في فكرة أننا نستطيع أيضا أن نصبح أساطير، بالدفاع عن الضعفاء وبالانتصار لهم، وبالدفاع عن أحلامنا حتي الرمق الأخير.