للثورة نطاقات.. أي ثورة.. في أي بلد.. في أي زمن. قد تكون الثورة ذات نطاق سياسي.. تحدث تغييراً جوهرياً في نظام الحكم أو تسقطه.. وحين يحدث هذا فإنه غالبا ما يكون لها نطاق قانوني.. إذ تحدث تعديلاً أو تأسيسا لنظام بديل. غني عن القول أن تعديل أو تأسيس النظم يختلف عن تغيير الإدارات.. فالنظام ليس هو عن الإدارة.. هو أشمل منها ويعني المؤسسات والنسق الحاكم.. لكن الإدارة أشخاص تدير المؤسسات. وقد تكون الثورة ذات نطاق اجتماعي.. تفرض تحولا طبقيا.. ترفع فئة وتسقط فئة.. تغير معادلات التوازن.. وتخلق قواعد جديدة في التركيب الاجتماعي للبلد.. أي بلد. وربما تكون الثورة ذات نطاق اقتصادي. تبدل الأيديولوجية.. تغير المنهج.. تنقل التوجهات غالباً من الرأسمالية إلي الاشتراكية.. ونادراً ما يحدث العكس.. ويؤدي هذا إلي تعديلات ذات أثر اجتماعي.. وفي روسيا الاتحادية.. وبولندا.. وأوكرانيا.. ودول أوروبية شرقية مماثلة خير دليل علي ذلك. ولعل الثورة تكون كل هذا في ذات الوقت.. مصحوبة بثورة ثقافية تغير طريقة تفكير المجتمع.. وقيمه.. وتبدل منهج تعاملاته.. وفي هذه الحالة يتغير شكل البلد. أي بلد.. برمته.. حتي لو لم يحدث هذا بين يوم وليلة.. واستغرق بعض الوقت. أهم أنواع الثورات علي الإطلاق في رأيي الخاص هو تلك التي تشمل أوضاع الشعوب لا أنظمتها.. تضرب أخلاق الناس.. قبل إدارات بلدهم.. تلك التي تتبع قاعدة (إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم).. والتي تضع علي الشعب مسئوليات إضافية.. في ذات الوقت الذي توجه فيه إدانات إلي أنظمة الحكم.. وتقلعها من مواقعها. (25 يناير) كانت «حدثاً ثورياً» بالمعني السياسي.. وستكون لها أبعاد قانونية ودستورية بالطبع.. وربما أحدثت بعد وقت تعديلات اقتصادية.. وقدراً من العدالة الاجتماعية إذا ما تمكنت الحكومات المتعاقبة من تطبيق المعايير الخاصة بالتوازن بين الفئات.. وهو أمر لا يمكن له أن يحدث بين يوم وليلة.. ولا حتي سنة ومايليها.. ولا يصيغه قرار القانون.. العدالة منظومة.. وسوف تظل مطلباً شعبياً. الثورة الحالية غيرت الإدارة.. لكن الأهم هل غيرت الناس؟ هل طالت الأخلاق؟ هل القت علي كاهل الشعب تحديات ومسئوليات؟ هل تدفقت في شرايينه طاقة مندفعة كي ينتبه إلي أن عليه تبعات.. وأن تغيير الإدارة وحده لا يكفي.. وأنه كي تتغير أحوال البلد، فإن علينا نحن أيضاً أن نتغير.. وأن تضربنا في العمق ثورة الأخلاق.. وقيم ثقافة جديدة. لا أتحدث هنا عن تطوع بعض الشباب لتنظيف الميادين.. أو تلوين الأرصفة..أتحدث عن تغيير كامل في عمق ثقافة شعب. مصر بعد (25 يناير) ليست هي مصر قبل (25 يناير).. هذا صحيح علي مستوي القيادة والقيم السياسية والمنهج العام في الإدارة.. لكن الناس لم يتغيروا.. بل إن هناك ظواهر طرأت كشفت عن أسوأ ما فينا.. انظر حولك بدون أن يعني هذا تطبيقا للشعار السكاني الشهير.. كي تعرف ما الذي يجري في البلد وبين الناس.. الأمور لا تحتاج تشخيصاً من أي كاتب أو طبيب. واجب النخبة، خصوصاً تلك التي أنتجتها تفاعلات (25 يناير) أن تقول هذا للناس.. أن تصارحهم لا أن تنافقهم.. أن تشرح أنه لن يكون هناك تطوير في الأحوال مادام لم تتغير الأساليب اليومية التي نتبعها.. الدساتير لا تقلب أحوال الشعوب فجأة.. ولن تتبدل حياتنا مادمنا كما كنا قبل يناير وديسمبر وقبل ما يزيد علي نصف قرن.. ولن نعرف التقدم بتغيير قانون أو انتخاب رئيس.. القيادة مهمة.. ولكن القاعدة لابد أن تكون مستعدة وراغبة وقادرة وتدرك عيوب نفسها. مهاتير محمد لم ينجح في قلب أوضاع ماليزيا إلا بعد أن أقنع الناس بأن عليهم أن يعملوا وينضبطوا في مواعيدهم.. الولاياتالمتحدة لم تتقدم إلا لأن الفرد يفكر في تطوير نفسه بجانب رغبته في أن يطور بلده.. أوروبا لم تصل إلي ما هي فيه إلا بعد ثورات فلسفية وعلمية وأجيال واصلت وراء بعضها عمليات الانتقال إلي أخلاق العصر. الثورات لا تحدث كل يوم.. ولهذا فإن علينا أن ننتهز الفرصة كي ننتبه إلي أحوالنا بعد أن أسقطنا إدارة حكمت مصر ثلاثين عاماً.. في نهاية الأمر هذه العقود الثلاثة لا تساوي شيئاً في تاريخ شعب عمره آلاف السنين.. وتمضي القرون دون أن نحمل أنفسنا مسئولية واجبة لإصلاح ذاتنا.. إن سلوكنا هو الذي يعين الطغاة علي أن يبقوا فوق أعناقنا أزماناً ممتدة. لو حكمنا (لي كوان) صانع نهضة سنغافورة، مع (أوباما) ملهم خيال الأمريكيين، و(مانديلا) محرر جنوب إفريقيا، في وقت واحد.. لن تنصلح أحوالنا قبل أن ننصلح من داخلنا.. أقول هذا دون أن أخلي مسئولية الرئيس السابق حسني مبارك - في إطار المراجعات - عن كثير مما وقع في مصر.. وهو ما سوف نأتي إليه فيما بعد.. لاشك في ذلك. الموقع الالكتروني : www.abkamal.net البريد الالكتروني : [email protected]