ولد الصحابى عبد الرحمن بن عوف الزهرى القرشى بعد عام الفيل بعشر سنين، وكان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده، ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال : «أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف فى ماله، ثلث يقرضهم، وثلث يقضى عنهم ديونهم، وثلث يصلهم ويعطيهم». وكان ابن عوف أحد الثمانية السابقين الى الإسلام، عرض عليه أبو بكر الإسلام فما غُمَّ عليه الأمر ولا أبطأ، بل سارع الى الرسول يبايعه، وفور إسلامه حمل حظه من اضطهاد المشركين، وهاجر الى الحبشة الهجرة الأولى والثانية، كما هاجر الى المدينة مع المسلمين، فأصيب يوم أُحُد بعشرين جرحا إحداها تركت عرجا دائما فى ساقه، كما سقطت بعض ثناياه فتركت هتما واضحا فى نطقه وحديثه. كان -رضى الله عنه- محظوظا بالتجارة إلى حد أثار عَجَبه فقال: لقد رأيتنى لو رفعت حجرا لوجدت تحته فضة وذهبا، وكانت تجارة عبد الرحمن بن عوف ليست له وحده، وإنما لله والمسلمين حقا فيها، فقد سمع الرسول يقول يوما ( يا ابن عوف إنك من الأغنياء، وإنك ستدخل الجنة حَبْوا، فأقرض الله يُطلق لك قدميك)، ومنذ ذاك الحين وهو يقرض الله قرضا حسنا، فيضاعفه الله له أضعافا، فقد باع يوما أرضا بأربعين ألف دينار فرّقها جميعا على أهله من بنى زُهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين، وقدّم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام، ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة. وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار فى سبيل الله، وأربعمائة دينار لكل من بقى ممن شهدوا بدرا حتى وصل للخليفة عثمان نصيبا من الوصية فأخذها وقال (إن مال عبد الرحمن حلال صَفْو، وإن الطُعْمَة منه عافية وبركة). وفى أحد الأيام اقترب على المدينة ريح تهب قادمة إليها حسبها الناس عاصفة تثير الرمال، لكن سرعان ما تبين أنها قافلة كبيرة موقَرة الأحمال تزحم المدينة وترجَّها رجّا، وسألت أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها- ما هذا الذى يحدث فى المدينة ؟، وأُجيبت أنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف أتت من الشام تحمل تجارة له، فَعَجِبَت أم المؤمنين قافلة :تحدث كل هذه الرجّة؟، فقالوا لها: أجل يا أم المؤمنين، إنها سبعمائة راحلة، وهزّت أم المؤمنين رأسها وتذكرت، أما أنى سمعت رسول الله يقول: رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حَبْوا، ووصلت هذه الكلمات الى عبد الرحمن بن عوف، فتذكر أنه سمع هذا الحديث من النبى أكثر من مرة، فحثَّ خُطاه الى السيدة عائشة، وقال لها (لقد ذكَّرتنى بحديث لم أنسه)، ثم قال: أما إنى أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحْلاسِها فى سبيل الله، ووزِّعَت حُمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها. ثراء عبد الرحمن بن عوف كان مصدر إزعاج له وخوف، فقد جىء له يوما بطعام الإفطار وكان صائما، فلما وقعت عليه عيناه فقد شهيته وبكى ثم قال: استشهد مصعب بن عمير وهو خير منى فكُفّن فى بردة إن غطّت رأسه بدت رجلاه، وإن غطّت رجلاه بدا رأسه، واستشهد حمزة وهو خير منى، فلم يوجد له ما يُكَفّن فيه إلا بردة، ثم بُسِطَ لنا فى الدنيا ما بُسط، وأعطينا منها ما أعطينا، وإنى لأخشى أن نكون قد عُجّلت لنا حسناتنا، كما وضع الطعام أمامه يوما وهو جالس مع أصحابه فبكى، وسألوه ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: لقد مات رسول الله وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ما أرانا أخّرنا لما هو خير لنا، وخوفه هذا جعل الكبر لا يعرف له طريقا، فقد قيل أنه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أن يميزه من بينهم.