يسود المشهد العام حالة من ارتباك تحديد الأولويات للحظة الراهنة من الفترة الانتقالية التي تعيشها مصر الآن، فيما بين محاسبة الفاسدين ومتابعة التحقيقات معهم وتزايد المستندات والوثائق التي تدينهم أمام الرأي العام، وبين المطالبة بتغيير الدستور وليس الاكتفاء بتغيير بضع مواد فيه، وبين التأكيد علي طلب إقالة حكومة تسيير الأعمال الحالية، واستمرار التظاهرات بميدان التحرير لتجديد المطالبة فبما سمي ب "ثلاثاء التحدي" إضافة للاعتصامات والاحتجاجات الفئوية المنتشرة بربوع مصر، وبين بناء مصر وتنميتها ونهضتها وهو مطلب لا يزال "محلك سر" غير قادر علي فرض حضوره وأهميته.. فكيف نستطيع ترتيب أولويات هذه اللحظات الفارقة في تاريخ مصر المعاصر؟ في رؤية تحليلية مبسطة للمشهد قال الدكتور عماد عبداللطيف أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بكلية آداب القاهرة: "يحتاج المجتمع لترتيب أولويات عمله، وتقديم القيام بعمل معين علي الأعمال الأخري حين يوجد تعارض بين الأعمال المطلوبة أو يتعذر القيام بها جميعًا في نفس الوقت. وفي الواقع أنا لا أري أي تعارض بين محاسبة الفاسدين وتغيير الحكومة وبناء مصر. بل العكس هو الصحيح، فبناء مصر يتحقق من خلال محاسبة الفاسدين واسترداد الأموال التي نهبوها وتوظيفها في عملية بناء مصر، وكل ذلك لا يمكن أن يتم إلا بوجود حكومة جديدة محترفة لا ترتبط بالنظام السابق، وليس لديها أية قيود تحول دون تطهير جوانب الحياة في مصر. وتابع: في الوقت ذاته فإن هذه الأعمال المختلفة لن تقوم بها مؤسسة واحدة، وبذلك فلن يكون هناك أي أعباء زائدة علي أحد. فمحاسبة الفاسدين هو من مهام المؤسسة القضائية، أما تغيير الحكومة فهو من مهام المجلس الأعلي للقوات المسلحة، وهذا أمر لا يمثل أي عبء لأن مصر مليئة بالكفاءات الإدارية والأكاديمية القادرة علي تشكيل عشرات الوزارات وليس وزارة واحدة. أما بناء مصر فهو عمل لا يقع علي عاتق مؤسسة واحدة، ولا حتي علي المؤسسات وحدها، بل هو مسئولية المصريين جميعًا. أظن أن الحديث عن أولويات اللحظة الراهنة هو محاولة أخيرة من بقايا النظام القديم للالتفاف علي عملية نقد ومساءلة ومحاكمة من أفسدوا مصر ونهبوها ودمروها علي مدار ثلاثين عامًا بدعوي أن الوقت الآن هو وقت بناء لا وقت هدم. وكأن معاقبة مرتكبي الجرائم التي يصل بعضها إلي حد الخيانة العظمي، وتأسيس وزارة لا تدين بالولاء للرئيس السابق، يتعارض مع بناء الوطن. في حين أن إخضاع مسئولي النظام السابق لمحاكمات عادلة هو المدخل الحقيقي الوحيد لبناء الوطن. وكما قال لي أحد عجائز الثورة الذين اكتسبوا حيوية أبناء العشرين في ميدان التحرير: لكي تضع أساسًا متينًا لبيت يرتفع في السماء عليك أن تحفر عميقًا في الأرض العطنة، وأن تتخلص من كل النفايات". تخوفات متعددة تولدت لدي الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي نتيجة لبعض المعطيات الطارئة حاليا أوجزها قائلا: "أولا طبعا لابد من إبعاد الفاسدين، ثم تحديد المبادئ التي تحكم المسيرة القادمة والأهداف التي نسعي إليها، فمثلا تحديد مباديء النظام الديمقراطي القادم وكذلك الدستور، وهو لا يعد تدخلا من المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن يقول إن الدولة لابد أن تكون مدنية، والدستور يكون قائما علي مبدأ المواطنة والفصل بين السياسة والدين، لقطع الطريق علي الجماعات الدينية التي تحاول أن تسرق الثورة، وهناك بعض ما يثير القلق مثل تولي المستشار البشري رئاسة لجنة التعديل الدستوري وهو شخص احترمه جدا، لكنني أخشي من توجهاته الدينية ومرجعياته الإسلامية، كذلك من الوقائع التي تثثير الخوف والقلق ما حدث في التحرير الجمعة الماضية من سيطرة الإخوان ومنع الشباب من التحدث، كذلك خطبة الشيخ القرضاوي التي وجهها للجماهير وكأنه في المسجد وهو ليس كذلك! فكان يخطب بميدان التحرير يتحدث للمسلمين والمسيحيين أيضا، فلقد حاول إعطاء الثورة صبغة دينية وتحديدا "إخوانية"، كل هذا يجب التنبه إليه وأن نعلن رفضنا لسرقة الثورة وأن يعلن المجلس الأعلي للقوات المسلحة قراراته بهذا الشأن لأنه القوة الوحيدة التي تحمينا الآن..". في رؤية مغايرة للأولويات يقول الكاتب جمال الغيطاني: "الأولوية في رأيي هي تكوين حكومة قوية حتي لو كانت عسكرية 100%، فحماية ما تبقي من الدولة والنهوض بالدولة المصرية تأتي في المقام الأول، لأنني أري أن الحكومة الحالية ليست قوية وغير متفهمة لما حدث، فالأولوية لحكومة تستوعب الثورة وتنقل البلاد لما هو مطلوب، وذلك يستلزم إجراءات أولها مقاومة حقيقية للفساد، فلا يجب أن تكون الإجراءات بطيئة فالفساد يبدأ من القمة، ثانيا الشفافية المطلقة، ثالثا إعطاء الأمل للشباب فلا يجب أن تكون أبواب الأمل مسدودة لغياب العدالة الإجتماعية وكذلك البطالة". الروائي أحمد أبوخنيجر جاء رأيه صادما يقول: "أولا حسب فكرة الثورة أتساءل هل نجحت الثورة أم لا؟!...المراقب للأحداث سيجد أنه علي أرض الواقع لم تحدث أشياء جوهرية لكن هناك مكاسب لا ننكرها، مثل "تخلي" الرئيس عن المنصب، وإن كان هذا الموضوع مازال يحتمل التأويلات في رأيي.. لكن مازال الهدف أو الشعار الرئيسي الذي التففنا حوله "الشعب يريد إسقاط النظام" لم يتحقق بعد، فلاتزال الحكومة القديمة هي التي تحكم ونبرة التهديد قائمة حول أهمية عودة الناس لمنازلها وإيقاف التظاهر. وتساءل: أسوان لم يحدث بها أي تصادمات أو تظاهرات سوي جمعة الغضب واليوم التالي فقط..لماذا تم سحب الشرطة من أسوان أيضا؟! ..لأن هذه هي الأوامر وهو ما يستتبع المحاسبة علي ذلك وبشدة وهو ما لم يحدث أيضا حتي الآن، فلا أري محاسبة حقيقية للفساد، فما أراه الآن هو أمر مرعب..فكيف يقبل المستشار البشري بتعديل الدستور والشرعية الثورية تقول إن الدستور سقطت شرعيته!