أجمل الأبطال هم الذين لا يتحدثون عن بطولاتهم ويتركون للآخرين كشفها وتثمينها.. وأروع البطولات هي التي نتذكرها في سياق زمني يبرز قيمتها العالية.. أقول هذا لاكتب عن برنامج أو مناظرة تليفزيونية تحولت إلي مبارزة بفعل حدة أحد طرفيها وهو نجم التليفزيون محمود سعد أمام ضيفه عبداللطيف المناوي مساء الأربعاء الماضي علي شاشة القناة الثانية المصرية ومن خلال برنامج (مصر النهارده). وفي الحقيقة فقد بدأت مشاهدتي للبرنامج وأنا أقرب إلي موقف سعد الذي عرفت أنه رفض العمل في البرنامج - وهو أحد فرسانه الأربعة المقدمين - لرفضه الانصياع لتعليمات وقيود وزارة الإعلام فيما يخص التعامل مع ثورة 25 يناير (كانت وقتها أحداثا فقط في البداية)، كانت لدي ملاحظات عديدة علي موقف التليفزيون كله وأسلوب التغطيات التي اتخذت طابعا فوقيا مفروضا علي جميع العاملين باتحاد الإذاعة والتليفزيون، وهو ما بدا من تعطيل القنوات المتخصصة وضم الإذاعات إلي القناتين الوحيدتين اللتين سمح لهما بالتعبير عن «الموقف» من نافذة الإعلام الرسمي للدولة، وهما القناة الأولي، وقناة النيل للأخبار. وكانت لدي معلومات أيضا بأن الغضب قد وصل إلي أقصي درجاته لدي عدد كبير من العاملين بهذا الإعلام، لفرط إدراكهم بالمهانة والعجز عن التفاعل مع الأحداث حولهم، والقيام بعملهم كما تعلموه في جامعاتهم وضمن ما ألقي عليهم من محاضرات كبار الإعلاميين وفي (كورسات) نظمت لأغلبهم من خبراء عالميين في مؤسسات إعلامية دولية مثل البي. بي. سي والC.N.N. وكانت لديهم قبل هذا ضمائرهم الحية، ورؤيتهم لزملاء وزميلات لهم يتابعون كل ما يحدث في مصر من خلال قنوات أخري عملوا بها بعد سنوات داخل مبني ماسبيرو ولكفاءتهم الشديدة، فهل هناك أصعب من هذا الموقف الذي واجهه الإعلاميون المصريون في الإذاعة والتليفزيون طوال عشرة أيام، منذ بداية ثورة 25 يناير حتي فرض الثوار إرادتهم علي الجميع. وبالتالي تنفس هؤلاء الإعلاميون الصعداء وانطلقوا يعملون كما يجب أن يعملوا وبدأنا نري التغيير الفوري من خلال الصياغات والحقائق والوجوه التي كانت ممنوعة من الصرف علي الشاشة الرسمية فبدأت تتوالي علينا، إذا كان الإعلاميون في أزمة علي هذا النحو، فإن بعضا قليلا منهم تصرف بأسلوب آخر، لم يغضب أو يوقع علي بيان وإنما استقال مثل شهيرة أمين كبيرة مراسلات النيل الدولية التي اعترفت بعدها بأن إعلانها عن استقالتها في إطار القنوات الفضائية الخاصة، خاصة العربية والدولية، تم استغلاله علي أوسع نطاق. وازيد علي هذا أنه زاد من غضب «أبناء المبني» الذين قد لا يقدرون علي الاستقالة لأنهم ليسوا في موقف السيدة أمين مقدمة برنامج (افريقيا) في قناة السي. إن. إن الأمريكية الكبيرة، وليس في مقدورهم أيضا الاستغناء تماماً عن أجورهم، بل أجورهم المتأخرة جدا بسبب الأزمة المالية في ماسبيرو، مثل الأستاذ محمود سعد مقدم البرامج اللامع الذي أعلن توقفه عن تقديم (مصر النهارده) لحين انتهاء الموقف الذي لم يكن أحد منا بالطبع يتوقعه، وهو سقوط النظام ورحيل الرئيس، (ولا في الأحلام). وبقدر ما اسعدني موقف محمود سعد وشجاعته هذا بقدر ما شعرت بالسخط عليه وهو يحاور، بعد عودته إلي البرنامج مساء الأربعاء الماضي، رئيس مركز أخبار مصر (قطاع الأخبار سابقا) حوار أقرب إلي تحقيق النيابة منه إلي حوار الإعلام، لم يكن المطلوب أن يكون سعد عنيفا إلي هذه الدرجة في مواجهة ضيف مأزوم أو مجروح من ألسنة الغضب ضده من فئات كثيرة من المشاهدين، خاصة المشاهدين العاديين، حول أداء التليفزيون في هذا الحدث العظيم، لقد بدا واضحاً أن مقدم البرنامج هنا ترك شحنة الغضب بداخله تقوده إلي أخطاء كثيرة في هذا الحوار، أولها أنه لم يكن لديه تقرير دقيق عن حركة التليفزيون، صوتاً وصورة، وكذلك الضيوف، وحتي بدأ تغيير اتجاهه، وفي أي اتجاه أيضاً؟ وثانياً: أنه لم يسأل عن الحكمة من ضم الإذاعة بجلالة قدرها إلي قطاع الأخبار لتتبعه، وثالثاً: أنه لم يترك لنفسه مساحة ليسمع الإجابات ويتأملها وإنما قاطع ضيفه كثيراً جداً بأسلوب استفز حتي أكثر محبيه ومتابعيه، مما أضاع علينا كمشاهدين فرصة لفهم أوضح وأفضل لسيناريو الأحداث التي أوصلت التليفزيون الرسمي المصري إلي هذا الموقف والقوي التي تدخلت في قراراته والتي لوح المناوي أنها ليست وزير الإعلام وحده، وكان الوزير أنس الفقي في تلك اللحظة قد أصبح وزيراً سابقاً، غير أن الخطأ الأهم في رأيي هو ما يخص موقف محمود سعد الذي كنا نقدره، فإذا به يوجه السؤال لضيفه. ولماذا لم تترك موقعك كما فعلت؟ ذلك لأن صاحب الموقف لا يجب أن يستخدمه علي الملأ حتي يبتعد عن شبهة المتاجرة به، وأنا أدرك أن سعداً لم يتاجر بموقفه، ولكنني أرفض أن يطالب الآخرين بالعمل مثله، فلكل إنسان منا قراره الذي يراه صائباً، وعليه أن يدافع عنه، ولا يجب أن يدين أحد منا غيره لأنه لم يفعل مثله رافضاً الاعتراف بمبدأ الاختلاف الفكري وبالتالي الاختلاف في التعامل مع الموقف ذاته، ولقد قدرت في «المناوي» رده بأن الانسحاب هو أسهل الطرق ولكن محاولة القيام بالعمل بأقل الأضرار كان هدفه، وربما يحتاج هذا إلي مناقشة أوسع وأعمق تطول الإعلام الرسمي والقومي كله، من الإذاعة والتليفزيون إلي الصحف القومية، ولكن هذا يجب أن يتم بعيداً عن العصبية الشديدة، وعن المشانق المعلقة سلفاً، وفي إطار من التعامل مع جميع العناصر المهمة لمناقشة هذه القضية. وأيضاً في إطار ملف معلومات لا غني عنه لأن الإعلام أصبح الآن لاعبا أساسيا في الهدم والبناء، وفي بناء الوعي أو غيابه، ومحاولة إدانة العاملين بمهنة شديدة الأهمية مثل الإعلام الإذاعي والتليفزيوني والورقي أيضاً، هي ظلم حقيقي قبل التعامل مع كل أطراف القضية، وما أسهل أن يترك أي إعلامي موقعه حين يصبح لديه من مقومات القوة، ما لدي نجوم التوك شو الذين يحصلون علي الملايين ولديهم عروض بالمزيد من الإعلانات «كما أعلن محمود سعد بفخر في البرنامج نفسه» . ولكن ما أصعب أن يفعل هذا غيرهم، ممن يحبون الوطن، ويحبون مهنتهم، ولا يستطيعون العمل وقول الحق، وليس لديهم أيضاً ترف الاستغناء.. وما أجمل أن يري القوي غيره بفهم واحترام لدوافعهم.. حتي لو اختلفوا في الوسائل عنه.. وما أروع أن يكون الإنسان قوياً، وبطلاً، بدون تعظيم الذات.