إلي أي مدي سوف تستخدم مصر ذراعها الطويلة لحماية أمنها؟ مبارك يتعهد بهزيمة الإرهاب واستخدام أقصي «قوة وإمكانيات» ضده من القاهرة إلي الدول الصديقة: زمن الحماية الأجنبية ذهب إلي غير رجعة.. نحن أولي بأقباطنا الرئيس يشير إلي الحروب الاستباقية لحماية أمن الشعوب ويقول: «أمن مصر ليس أقل أهمية من أمن الآخرين» وزير الداخلية يؤكد: بالدليل القاطع «جيش الإسلام الفلسطيني» ارتكب جريمة الإسكندرية واختفي وراء تجنيد عناصر محلية لا يمكن وصف الزمن الذي ألقي فيه رئيس الجمهورية خطابه أمس إلا بأنه (لحظة تاريخية)، جسدت قوة الدولة، وثقة رئيسها، وتماسك المجتمع، وفجرت طاقة مهولة في بنيان الشعب من مكنونه العريق، بينما مبارك يستنهض الأمة، بكلمات واضحة وملهبة وموحية، ولا لبس فيها، في مواجهة خطر حقيقي يواجه البلد.. ألقي بظلاله السوداء علي أمنه القومي قبل ما يزيد علي عشرين يوماً.. ودق جرس الإنذار الوطني في قلوب وعقول الجميع. إن للرئيس خطابات عديدة مهمة، لكن خطابه بالأمس يصنف تاريخياً في مرتبة أهمية قصوي، لا تقل في مفصليتها عن خطابه يوم أعلن عن تغيير طريقة اختيار الرئيس دستورياً في 2005، وخطابه يوم أعلن التعديلات الدستورية في 2007، وخطابه يوم أعلن عن التوجه النووي السلمي لمصر، إذ كان خطاب الأمس إعلاناً واثقاً بالتحدي في مواجهة مزيج تكون من (خطر الإرهاب، والضغوط الخارجية، وتحديات الأمن القومي المختلفة)، حيث أعلن الرئيس بوضوح وحسم وامتلاء وعزم قائد يتجه إلي المعركة: (سوف ننتصر.. سوف نهزمكم). لقد تعبأ الخطاب بزخم رهيب، كانت أهم مقوماته أن (جهاز أمن مصر) لم يشأ أن يحتفل بعيد الشرطة هذا العام بدون أن يكون قد أمسك بتلابيب الحقيقة وراء من قام بالعملية الدنيئة التي ارتكبت ضد كنيسة القديسين في الإسكندرية في مطلع العام، ومن ثم فإن وزير الداخلية حبيب العادلي ما لبث أن بدأ الاحتفال بأن أعلن في خطابه أن تنظيم (جيش الإسلام الفلسطيني) المرتبط بالقاعدة يقف وراء تفجير الإسكندرية.. ما دعا الرئيس مبارك لأن يقول في خطابه: (إن ما أعلنه السيد وزير الداخلية الآن يشفي صدور جميع المصريين ويضع وساماً جديداً علي صدور رجال الشرطة ونحن نحتفل بعيدهم).. وهي جملة أضافها الرئيس إلي صدر الخطاب الذي اعتمر بالثقة في جهاز الشرطة والمسئوليات الملقاة علي عاتقه، والتحديات التي تواجهه. والواقع أن هذه الفرحة التي فجرتها قدرة الشرطة، إنما تطرح تساؤلات جوهرية حول أكثر من أمر، في سياق التحديات التي يتعرض لها أمن مصر القومي.. من الخارج ومن الداخل.. وتلك التساؤلات هي: • إن مصر أعلنت من اللحظة الأولي أن هناك أصابع خارجية تقف وراء الجريمة المروعة.. قالها الرئيس في كلمته إلي الأمة يوم أول يناير.. وقالها بيان الداخلية.. وقال الرئيس في خطابه بالأمس واصفاً الإرهاب الذي سبب تلك المأساة: (يحمل بصمات أصابع خارجية ويستدعي لأذهاننا أشكالا دموية للإرهاب في منطقتنا وخارجها لاعهد لنا بها).. وبالتالي فإن السؤال هو: هل الاتهام الأول كان عائداً إلي قراءة أسلوب الجريمة أم أنه توافرت معلومات أولية في حينه؟ • إن وزير الداخلية وهو يتهم هذا التنظيم الفلسطيني (بالدليل القاطع) إنما قال إنهم تخفوا وراء عناصر تم تجنيدها.. محلياً.. ما يعني أن هناك بيئة لابد من التعامل معها داخلياً وبوضوح.. وقد قال الرئيس في خطابه بالأمس: (إن الطائفية ظاهرة ممقوتة.. يدفعها الجهل والتعصب.. ويغذيها الخطاب الديني المستنير لبعض رجال الدين.. وبعض الكتاب والمفكرين).. ملقياً بالمسئولية علي عوامل مختلفة.. أساسها هو الجهد الذي لابد أن يبذل في اتجاه العقل.. فهل المجتمع ونخبته ومؤسساته انتبهت إلي مسئولياتها في هذا الاتجاه؟ • إن صفة التنظيم المتهم، باعتباره فلسطينيا، عمل ويعمل علي أرض غزة، إنما تلقي بتساؤلات رهيبة حول البيئة التي اصطنعها وجود حماس في القطاع، والمناخ الذي أفرزته، وكيف أدي إلي تولد هذه التنظيمات التي لم تقوض أمن ومصير فلسطين فقط وإنما تلقي بحممها في اتجاه أمن مصر.. فإلي أي مدي يمكن أن تحتمل مصر هذا؟ • إن هذا الاتهام يثير أيضا تساؤلات جوهرية حول الأعباء القومية التي تتحملها مصر، والضغوط التي تسفر عنها وتحوم حولها، خصوصا فيما يتعلق بأمر معبر رفح، ومعضلة الإنفاق التي تسبب مشكلات رهيبة وتحديات مذهلة لأمن سيناء والأمن القومي عموماً.. ولابد أنه سوف يتضح في الفترة التالية كيف أثر هذا الوضع علي أمن مصر.. لاسيما ما يتعلق بجريمة (كنيسة القديسين). وإذ نهنئ الشرطة علي هذا الإنجاز الذي تمكنت من تحقيقه قبل أن يمضي شهر كامل علي الجريمة المروعة في الإسكندرية، فإن خطاب الرئيس بالأمس في عيد الشرطة، ذكري شهدائها في ميدان النضال ضد الاحتلال، مثل رسالة قوية وصارمة وفارقة في معركة مصر ضد الإرهاب.. ويمكن بإيجاز غير مخل توصيف هذا الخطاب بأنه (إعلان حرب متكاملة علي الإرهاب والطائفية) بلا أي مبالغة.. وهو إعلان له مقوماته الدقيقة والمحددة.. قرأته كما يلي وفقاً لما ورد في نص الخطاب: • قال الرئيس: سوف نمضي في حربنا علي الإرهاب. • قال الرئيس: هذه الحرب علي الإرهاب سوف تكون بقوة القانون وحسمه.. وهذا محدد مهم للغاية فيما قال الرئيس. • قال الرئيس: سوف نستخدم في هذه الحرب أقصي ما نمتلكه من قوة وإمكانيات.. ولدينا منها الكثير.. «لاحظ هنا استخدام الرئيس لتعبير (أقصي).. وتعبير (قوة).. و(لدينا منه الكثير)». • جاء هذا بعد حديث الرئيس عن الحروب الاستباقية التي شنتها دول كبري خارج حدودها.. محدداً (في أفغانستان والعراق).. وقال: لقد رفعت هذه الدول شعار الحرب علي الإرهاب وأراقت كثيراً من الدماء وأزهقت الكثير من الأرواح ولم تزل تفعل.. حماية لأمنها القومي وأمان شعوبها. فيما بعد ذلك قال الرئيس بوضوح: (أمن مصر القومي ليس أقل شأناً من الأمن القومي لهؤلاء.. وحرصنا علي حماية بلدنا ومواطنينا لن يكون أقل حرصاً علي أمن بلادهم ومواطنيهم).. وهو تعبير واضح يشي بدلالات لا يمكن أن تفوت علي أحد. • قال الرئيس: لن نتردد قط في اتخاذ ما نراه محققاً لأمن مصر وشعبها. • قال الرئيس: سوف نتصدي للإرهاب ونهزمه.. سنتعقب مرتكبيه ونلاحقهم في الداخل والخارج.. ولن يفلتوا أبدا من العدالة. إن القراءة الواضحة تعني ببساطة أن الرئيس إنما كان يعلن توجهاً استراتيجيا راسخاً في التعامل مع الإرهاب، وتهديده للأمن القومي، في شقه الخارجي، مكسباً هذا إطاره القانوني، من المبادئ العادلة، ومؤكدا علي معني محدد.. وهو أن أهم حقوق الإنسان هو حقه في الحماية والحياة.. ما يعني أنه ليس علي هؤلاء الذين يطالبون بحقوق الإنسان أن يلهونا عن أهم حق للإنسان.. وهو أن يعيش أولاً. إن السؤال الجوهري الموجه إلي الخارج هنا: إذا كان قد قتل من الأمريكيين نحو خمسة آلاف قتيل في الحرب خارج الولاياتالمتحدة تحت شعار الحرب ضد الإرهاب.. فكم أمريكيا تمت حمايتهم من الخطر إذن؟ وأي حقوق الإنسان يجب أن يطبق أولاً: أليس هو الحق في الحياة؟! لكن هذه الحرب العادلة المؤطرة بأسس القانون، التي سوف ننتصر فيها، بلغة قائد المعركة، الذي ذكّر الجميع بأن مصر خاضت من قبل معركة مطولة ضد الإرهاب حذرت الجميع من كل مسبباتها ولكن أحداً لم يستجب لدرجة دعتهم إلي منح اللجوء السياسي لإرهابيين، هذه الحرب لها أكثر من شق.. شق خارجي (بالقانون).. وشق داخلي في مواجهة (الطائفية ) التي أكد الرئيس أنه لن يتهاون معها.. وقال (سوف نتصدي لدعاة الفتنة.. ونحاسب المروجين لها.. والمحرضين عليها).. ويلاحظ هنا الترابط الوثيق بين حديث الرئيس عن مواجهة الإرهاب والطائفية في مزيج واحد ومعادلة واحدة. في الطريق إلي هذه الاستراتيجية المتعاملة مع الإرهاب، التي سوف تستخدم مصر فيها (أقصي قوة وإمكانيات).. فإن الرئيس استنهض شعبه.. وقال: (لن نسمح للإرهاب بأن يزعزع استقرارنا.. أو ترويع شعبنا.. أو النيل من وحدة مسلمينا وأقباطنا).. وقد كرر الرئيس ما قاله من قبل يوم أول يناير: (لن نزداد إلا تصميماً علي محاصرته.. وملاحقته.. وقطع يده.. واقتلاع جذوره).. إن هذا كلام له أهمية كبري حين يكون جذر الإرهاب الذي وقف وراء ما جري في الإسكندرية هناك في غزة. ولكن السؤال هو: إلي أي مدي سوف تمد مصر ذراعها الطويلة والقادرة.. لكي تقتلع الإرهاب من جذوره؟ وفي ذلك أقول ما يلي: • لا يمكن التعامل مع هذه المعاني إلا في إطارها القانوني والعادل. • هناك أساليب مختلفة ومتنوعة تقوم بها مؤسسات متنوعة لملاحقة الإرهاب والاقتصاص منه بالعدل. • هناك تعاون دولي لابد أن يفعّل.. وألا تتخلي الدول عن مسئولياتها في المواجهة الجماعية للإرهاب لأنه خطر يلاحق الجميع.. ومن ثم فإن من المؤسف أن دولا عديدة لم تزل تأوي إرهابيين تعرف مصر عناوينهم وأرقام تليفوناتهم. • إن معايير الأمن وحماية الأرواح وحفظ الأمن القومي تفوق أي معايير وهذا كلام يفهمه جيدا هؤلاء الذين يتسترون وراء حقوق الإنسان لكي يبرروا ضغوطهم علي مصر. لقد ربط الرئيس بين هذا التوجه ضد الإرهاب والطائفية، وبين وقفات ووقائع تاريخية لها صداها في تاريخ المصريين، وهو يخاطبهم بشأن الحدث الجلل الذي يتعرضون له.. ومن ثم فإنه عاد إلي محطات وطنية ذات مغزي.. إلي مواجهة الاستعمار في 1919 بالهلال والصليب.. وإلي مواجهة الاحتلال ورفض الهزيمة في 1967.. وإلي الانتصار الذي قاد للتحرير في أكتوبر 1973 وإلي تحرير طابا بطريقة مختلفة.. وفوق كل هذا فإن الرئيس في استعادته تلك الوقفات الوطنية اعتبر أن بينها أيضاً (رفض أي وجود عسكري علي أراضينا + رفض المشروطيات والإملاءات). بدا الرئيس بالأمس في قمة تصميمه، مدعوماً بخبرة السنين، والتاريخ الوطني الممتد، والمعارك المتنوعة عسكرية وغيرها التي خاضها عبر مساره، ومن ثم فإنه رسالة واضحة جداً إلي كل من حاولوا استغلال ما جري في الإسكندرية لضرب مصر.. وقال في تلك الرسالة ما يلي: • زمن الحماية الأجنبية والوصاية قد ذهب بغير رجعة. • لا نقبل ضغوطاً أو تدخلا في الشأن المصري. • نحن أولي منكم بأقباطنا.. هم مصريون قبل أي اعتبار آخر. • حماية المصريين.. كل المصريين.. هي مسئوليتنا وواجبنا. لقد تحدث الرئيس عن تطلعات وأحلام كبيرة، وعن إصرار علي المضي في خطي الإصلاح، مؤكدا أنه (لن نسمح لقوي التطرف والإرهاب بأن تعرقل مسيرتنا أو أن تنتزع منا هذه الآمال والتطلعات).. وقد استخدم الرئيس أكثر من مرة تعبير (المعركة مع الإرهاب).. وكرر مرات (سوف نهزمه).. مطالبا الأمة بأن تقف صفاً واحداً.. وأن الجميع (شركاء في تحمل مسئولية هذه المعركة وأعبائها). لم يكن هذا خطاباً عاديا.. لا الظرف كان سيجعله عادياً.. ولا المسئولية كانت سوف تجعله عادياً.. ولا الضغوط المرفوضة كانت ستجعله عاديا.. ولا التهديد المحدق كان سوف يجعله عاديا.. ولا شخصية الرئيس مبارك كان يمكن أن تقبل أن يكون هذا خطاباً عادياً. متابعة شاملة شئون مصرية ص 6 و 7