بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، تبنت الإدارة الأمريكية السابقة مشروعا للتغيير في الشرق الأوسط، يستهدف تغيير أنظمة الحكم فيها، وإقامة نظم ديمقراطية، استنادا إلي ما توصلت إليه من أن الهجوم الإرهابي الذي ضرب الولاياتالمتحدة في ذلك العام راجع إلي غياب الديمقراطية. وبعد سنوات من العمل غير المنظم أطلقت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ما يعرف باسم الشرق الأوسط الكبير القائم علي الفوضي الخلاقة، وهدف هذا المشروع تشجيع الحركات المعارضة والاحتجاجية والأحزاب علي النزول إلي الشوارع، وخلق حالة من الفوضي، من شأنها أن تتفاعل فتؤدي إلي إسقاط النظم الحاكمة، ومن ثم تبرز هذه الفوضي قيادات جديدة تقود العالم العربي بشكل أكثر ديمقراطية. وأصاب الأمريكيون في شيء واحد فقط، هو التركيز علي مصر، علي اعتبار أن معظم رياح التغيير في العالم العربي، تظهر في مصر، ومن ثم يسهل لها الانتشار في العالم العربي، ولهم في ذلك تجربتان الأولي «القومية العربية» التي أطلقها الرئيس جمال عبدالناصر في الستينيات وصارت هدفا عربيا، والثانية حركة «الإسلام السياسي» التي بدأت مع الإخوان وصارت دعوة عربية وعالمية. وكان سهلا جدا لو نجحت أمريكا في ترويج نظرية الفوضي الخلاقة في مصر، واستطاعت إسقاط نظام الحكم فيها، أن تنتقل العدوي سريعا إلي العالم العربي لنري تساقط نظم الحكم العربية المختلفة بمنتهي السهولة.. لكن مصر صمدت في وجه الخطة الأمريكية، واحتوت كل ضغوطها، حتي سقطت الإدارة الأمريكية اليمينية وجاءت إدارة ديمقراطية جديدة أكثر انفتاحا علي العالم من سابقتها. وبعكس كل الضغوط الغربية، والافتراضات الأمريكية انهار فجأة نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وبينما كانت التقديرات الغربية تري أن تونس هي أكثر البلدان العربية استقرارا، فوجئت الإدارتان الأمريكية والفرنسية بما يجري في تونس، ولم تتوقع أي منهما أن تؤدي الضغوط الجماهيرية علي الرئيس بن علي إلي انهياره. قبل ثلاثة أيام قلت لصديق لي لو استمر ضغط الشارع علي الرئيس بن علي ثلاثة أيام أخري، فإنه سينهار، وأتبعت هذا التحليل السياسي بأن الأنظمة الديكتاتورية شديدة الانغلاق، تستمد شرعيتها وقوتها من خوف شعوبها، لكنها لم تختبر الثورات الشعبية، ولا تعرف كيف تتعامل معها، لذلك فهي سرعان ما تنهار تحت ضغط الشارع، كما حدث من قبل مع الرئيس السوداني جعفر نميري بعد ثلاثة أيام من التظاهرات الشعبية، اضطر الجيش بعدها إلي الإطاحة به وتولي مقاليد الحكم، وهو ما حدث أيضا مع الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع عام 2005، وتولي الجيش مقاليد السلطة أيضا لفترة انتقالية. هذا ما حدث في تونس، وهو ما دفع البعض للتساؤل: هل يمكن أن يتكرر في مصر؟.. شخصيا أعتقد أن السؤال في غير موضعه، فمصر ليست مثل الحالة التونسية أو السودانية قبل 24 عاما، أو الحالة الموريتانية قبل خمسة أعوام، صحيح أن مصر ليست عصية علي التغيير، لكنها تتغير من أعلي لأسفل وليس العكس، بمعني أن التغيير فيها يأتي من قمة السلطة وليس من القاعدة الشعبية. وقد يكون التغيير من قمة هرم السلطة نابعاً من رغبة شعبية، لكن التغيير لا يحدث من الشارع، ذلك لأن الطبيعة المصرية في الغالب تميل إلي الاستقرار أكثر من الفوضي، ولأن طبيعة الدولة المصرية أكثر استقرارا من غيرها من الدول العربية، فهي دولة مركزية منذ نحو خمسة آلاف عام، ولم تعرف تغييرات درامية علي مدار هذه السنوات سوي في مرتين في التاريخ الفرعوني القديم، وسماها المؤرخون عصور الانحطاط، لأن السلطة المركزية تحللت، وتفككت الروابط التي تربط الدولة، وجاءت المحاولة الثالثة في العصور الوسطي حين ثار المصريون علي الوالي العثماني، لكنهم اختاروا الضابط الألباني محمد علي الذي كان يدين بالولاء للخليفة العثماني ما يعني أنه كان تغييرا داخل النظام وليس خارجه. مصر ليست مثل تونس، ولو كانت مثلها لانهارت السلطة السياسية فيها تحت الضغوط الأمريكية في عهد الرئيس السابق جورج بوش، ولو حاولت تلك الإدارة تطبيق فوضتها الخلاقة في دول عربية أخري لانهارت، لكن مصر تتغير بطريقتها الخاصة.. وليس حسب الطريقة الأمريكية.. أو التونسية.