مع اعلان موت عملية السلام مات جنين الشرق الأوسط في رحم أمه الولاياتالمتحدة التي حاولت لعب دور الأم البديلة لكنها عجزت عن ذلك بعد أن فشلت مخططاتها الرامية إلي افتعال أزمات تأتي في إطار ما أسمته وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس" الفوضي البناءة " . فمنذ عدة سنوات أطلقت الإدارة الأمريكية دعوتها إلي شرق أوسط كبير في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية . ومنذ أسابيع قليلة دعت رايس إلي " شرق أوسط جديد " بعد شن إسرائيل عدوانها الاَثم علي لبنان واصفة ما تقترفه القوات الإسرائيلية من مذابح في حق الأبرياء من المدنيين والأطفال والعجائز باَلام المخاض اللازمة لولادة شرق أوسط جديد . ومن الواضح أن الفارق الزمني بين الدعوتين الأمريكيتين لم يستغرق وقتا طويلا بل مجرد سنوات قليلة شعرت الولاياتالمتحدة في أواخرها بأن سياستها الخاصة بالشرق الأوسط أصابها التخبط والعشوائية بعد أن ظن صقور الإدارة الأمريكية بأن إرهاصات الديمقراطية حلت بالاقليم بعد تلك المتغيرات التي دبت في عدد من بلدانه المحورية . ففي لبنان وفي أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري خرجت جموع غفيرة من اللبنانيين يحتجون علي الوجود السوري علي أراضيهم . وأسفرت ثورة الأرز اللبنانية عن مغادرة القوات السورية للبنان والإعلان ضمنا عن نجاح الديمقراطية علي الطريقة الأمريكية في جولة أعطت دفعة ومبرراً للساسة الأمريكيين للمضي قدما في مخططات إدارتهم . لكن إرادة اللبنانيين الحرة عاندت الأمريكيين بعد أن اسفرت الإنتخابات البرلمانية اللبنانية عن فوز حزب الله الشيعي بتمثيل ولو ضئيلا ومشاركته في الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة . وامتثالا للضغوط الأمريكية أقيمت انتخابات بلدية موسعة علي مستوي المملكة العربية السعودية وتلقت الإدارة الأمريكية صفعة أخري بعد نجاح الإسلاميين في الإستئثار بأغلبية المقاعد . وكانت مصر علي جولة من الصراع الخفي مع الدبلوماسية الأمريكية فتعددت زيارات مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأوسط ديفيد وولش للقاهرة . وانطلقت رايس لتحاضر المصريين عن الديمقراطية " الأمريكية " داخل الجامعة الأمريكية . والتقت كوندي برؤساء الأحزاب والمعارضة المصرية ودار النقاش حول اَلية الدفع بعجلة الديمقراطية في مصر وعن الحركات الجديدة مثل كفاية تمهيدا للانتخابات البرلمانية التي شهدت مفاجأة من العيار الثقيل للحزب الوطني الحاكم بعد فوز جماعة الإخوان المسلمين بعدد كبير من المقاعد . وفي النهاية انقلب السحر علي الساحر فبعد أن ظنت الولاياتالمتحدة أن التغيير الذي احتضنته مصر سوف يصب في مصلحتها فوجئت بأن المواقف المصرية لا تزال ثابتة وبأن كفاية والإخوان المسلمين معارضان للسياسات الأمريكية فيما يتعلق بالشرق الأوسط الكبير أو الجديد. وفيما يخص الأراضي الفلسطينيةالمحتلة واصلت الولاياتالمتحدة العمل علي توفير الأمن للمحتلين الإسرائيليين الذين قاموا بعزل ومحاصرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لمدة عامين عن العالم الخارجي في محاولة للضغط علي الشعب الفلسطيني للإطاحة بقائده التاريخي واستبداله برجل مزايدات يسير وفق هوي الإدارة الأمريكية . فما كان من الفلسطينيين غير الالتفاف حول زعيمهم أبو عمارومساندته حتي في أوقات مرضه وبعد وفاته . وعندما أعلن عن الإنتخابات التشريعية الفلسطينية وعلي الرغم من التصنيف الأمريكي لحركة حماس علي لائحة المنظمات الإرهابية فازت الأخيرة بأغلبية المقاعد التشريعية وأوكل إليها تشكيل الحكومة الفلسطينية . وأبي الفلسطينيون التخلي عن حكومتهم بعد أن قررت الولاياتالمتحدة فرض الحصار الاقتصادي والمالي عليها وظل الموظفون يعملون دون تقاضي رواتبهم لشهور طويلة . وعلي الساحة العراقية تكبدت القوات الأمريكية خسائر فادحة في العدد والعتاد وفقدت السيطرة علي كافة المدن العراقية التي انتشر فيها العنف كالنار في الهشيم . واختلطت المقاومة بالجماعات المسلحة المأجورة وسارعت العديد من الدول الأجنبية بسحب قواتها من المستنقع العراقي لتزداد المسئولية علي عاتق القوات الأمريكية . وبعد الإعلان عن نتائج الانتخابات العراقية وتولي نوري المالكي رئاسة الحكومة ظن الأمريكيون خطأً أن الوضع الأمني سوف يشهد تحسنا ملحوظا إلا أن ما حدث خالف التوقعات الأمريكية .استمر مسلسل الدم في العراق بمتوسط 100 قتيل يوميا خلال شهري مايو ويونيو وقامت العديد من البلدان بخفض تمثيلها الدبلوماسي بشكل لافت بعد أن تعددت عمليات اختطاف وقتل الدبلوماسيين الأجانب وحتي العرب . وخلال الأسبوع الجاري أعرب الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في تصريحات صحفية أن الشرق الأوسط يمر بمرحلة سوداوية خلافا لما أرادته الإدارة الأمريكية بعد فشلها في فلسطين والعراق وما يحدث الاَن في لبنان . ولا شك في أن العدوان الإسرائيلي- الأمريكي علي لبنان رفع أعداد المعارضين للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط وشكل ضغوطا داخلية علي الأنظمة العربية الموالية لأمريكا . ويستشعر المرء أن الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسي عندما نعي عملية السلام كان يقصد فشل السياسة الأمريكية علي وجه التحديد . ففي البداية حاولت الولاياتالمتحدة إحداث تغييرات جذرية في الأنظمة العربية العتيقة لكنها فشلت فشلا ذريعا انتقلت علي إثره إلي مرحلة أخري تدور حول ترويض هذه الأنظمة وإقامة تحالفات معها ضد النظام الإيراني المصمم علي الاستمرار في تنفيذ برنامجه النووي وعلي دعم حزب الله . وخلافا للتوقعات التي انطلقت مع بداية الحرب صمد حزب الله في وجه الضربات الإسرائيلية وانتقل إلي مرحلة الردع ووصل بصواريخه المتنوعة المدي إلي العمق الإسرائيلي مما تسبب في خسائر فادحة للاقتصاد الإسرائيلي تقدر بمليارات الدولارات يوميا ناهيك عن الخسائر البشرية التي تثمنها الدولة العبرية بشدة . ووجد تنظيم القاعدة ضالته المنشودة في هذه الحرب لإتخاذها كمبرر لشن اعتداءات جديدة علي المصالح الغربية وعلي الأخص الأمريكية انتقاما لما يحدث في لبنان . علاوة علي هذا كله خسرت الدبلوماسية الأمريكية الحرب السياسية بعد أن شعر المواطن العربي بالتعاطف مع حزب الله وقبله حماس وكلاهما تدرجهما الولاياتالمتحدة علي لائحة الإرهاب . ويحذر ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية من أن اللامبالاة التي تتسم بها ردة فعل الإدارة الأمريكية إزاء الضحايا من المدنيين اللبنانيين سوف تساعد علي ظهور المزيد من الحركات المتشددة في العالم العربي مما يعني الدخول في دوامات صراعات جديدة قد تستمر لفترات طويلة كما هو الحال مع القاعدة