"إنا لله وإنا إليه راجعون".. البقاء لله فى كل روح فاضت إلى بارئها فى استاد بورسعيد.. وخالص التعازى لكل الأهل فى مصر.. فالحدث جلل والمصيبة عظيمة، والدعوات خالصة أن يتغمد هؤلاء الشباب فسيح جناته، ويلهم أهلهم الصبر.. ويعينهم على مصابهم. * الآن جئنا إلى اللحظة التى سال فيها الدم أنهارا.. 71 ضحية من خيرة الشباب الأبرياء، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ذهبوا خلف فريق النادى الأهلى، الذى يشجعونه، ليتابعوا مباراته أمام النادى المصرى فى الدورى، فتنتهى مباراة فى كرة القدم، التى هى فى الأساس وسيلة للتسلية، والترويح، والتخفيف من أعباء الحياة كما يراها العالم المتحضر نهاية درامية مأساوية، يسقط فيها كل هذا العدد من الضحايا الذين نحتسبهم عند الله شهداء الذين ربما لا يسقطون فى حرب من الحروب! كنت دوما أحذر من القادم، وقد كتبت كثيرا، عن المخاطر التى تواجه الملاعب المصرية، وعلى امتداد عام كامل لم يفتنى التحذير مرة وراء الأخرى من القادم الذى كنت أراه الأسوأ.. لم أتوقف عن الكتابة منذ أول حدث تشهده الملاعب المصرية فى أربعين عاما.. وأعنى به اقتحام الجمهور لأرض ملعب استاد القاهرة فى مباراة الزمالك.. والأفريقى التونسى، فى بطولة دورى الابطال الأفريقى، وكانت قبل أقل من عام.. ومن بعدها توالت الأحداث دونما توقف.. وكلها كانت تشير إلى عنف وانفلات متزايد، ينبغى التوقف عنده، واتخاذ الاحتياطات الواجبة، حتى لا يتحول اقتحام الملاعب إلى فعل متكرر.. يأتى من بعده نزيف الدماء، وقد كان.. فكانت النهاية سقوط كل هؤلاء الضحايا.. وبأعداد تثير الحزن، والألم، والغضب، والضيق.. لأن الدماء ليست رخيصة إلى هذا الحد.. ولن تكون. كانت البداية مع مباراة الزمالك.. والأفريقى، ثم توالت الأحداث تباعا دون توقف، وفى كل مرة.. كانت كل واقعة تمثل جرس إنذار.. ولكن هيهات أن ينتبه أحد، أو يتحرك مسئول.. أو يكون هناك موقف.. لم يبد أحد أدنى اهتمام بالتحذيرات المتوالية، والأحداث المتكررة.. لم يتفاعلوا مع ما تكتبه الصحافة.. ومنها ما كتبته مرارا دون كلل أو ملل.. تعاملوا مع المكتوب على الورق، هو من قبيل الدخان الذى يطير فى الهواء.. فكان ما كان.. وبكل أسف كان الثمن باهظا جدا. ورغم التحذيرات المتكررة.. راحت العدوى تنتقل بين الملاعب.. تماما مثل انتشار النار فى الهشيم.. ومع ذلك.. لم نجد أحدا يهتم.. أو يتحرك، انتقلت العدوى من استاد القاهرة فى مباراة الزمالك والأفريقى.. بالقاهرة، ليكون الموعد التالى فى مدينة الإسكندرية.. وكنا بالتحديد فى شهر يونيو من العام الماضى، وكان الموسم الكروى يوشك على الانتهاء.. وقتها اجتاحت جماهير "الاتحاد السكندري" أرض الملعب فى مباراة الفريق السكندرى أمام فريق "وادي دجلة"، وكانت المباراة قد وصلت إلى تقدم فريق وادى دجلة، على فريق الاتحاد.. وكانت المحصلة إصابة عدد غير قليل من الجماهير واللاعبين، والمثير أن من بين من أصيبوا.. كان واحدا من طاقم التحكيم النمساوي.. ليتم إلغاء المباراة، وأذكر أننى كتبت وقتها.. أن مثل هذا الحدث سوف يدوى فى كثير من أرجاء العالم، ولن يكون سوى دعاية سيئة لبلد.. بهر العالم بثورته وتحضره.. فيأتى الوقت الذى تنال الفوضى منا بإيذاء واحد من الأجانب.. وقصدت به مساعد الحكم النمساوى.. وكما هو الحال دوما، فات الموقف، مر مرور الكرام، بما أننا أكثر شعوب العالم إجادة للنسيان.. وربما هى النعمة التى أنزلها الله على خلقه.. فاختص بها المصريون أنفسهم.. وحرموها على باقى أهل الأرض!!. وبعد وقت قصير.. جاء الموعد الجديد لانفلات جديد.. وهو الذى جاء فى أعقاب مباراة النادى الأهلي، أمام كيما أسوان في كأس مصر، والتي انتهت بفوز الأهلي بأربعة أهداف نظيفة، حيث وقعت اشتباكات بين الشرطة، وبعض جماهير الأهلي، حول استاد القاهرة، أسفرت عن وقوع إصابات في صفوف الطرفين!!. وفى الإسماعيلية.. أشعلت جماهير فريق الإسماعيلي، النيران في المدرجات، وألقت الحجارة، وزجاجات المياه على رجال الأمن، بعد خسارة فريقها أمام المقاولون العرب في دور الثمانية لبطولة كأس مصر أيضا.. وجاء اقتحام جديد من الجماهير لأرض الملعب.. وكأنه صار من الثوابت فى مباريات الكرة فى مصر.. وكانت المباراة بين النادى المصري، وفريق سموحة، بعد أن تعادل الفريقان فى اللقاء، ثم كان الحدث الأكثر وضوحا.. وكان هذه المرة فى مدينة المحلة، التى اقتحم جمهورها أرض الملعب فى مباراة الأهلى.. بعد أن سكنت الكرة شباك المحلة، وخرجت من الملعب، مسجلة هدفا صحيحا.. لم يعترف به فريق المحلة.. فكان ما كان.. والنتيجة اقتحام أرض الملعب، وإلغاء المباراة!! إشارات متتالية.. وأحداث لا تتوقف، كلها تقول إن القادم أسوأ من كل ما جرى.. وها نحن، نعيش الكارثة.. بوقوع كل هذه الأعداد من الجماهير.. ضحايا لمباراة فى كرة القدم.. هل هذا معقول؟! أنا لن أتوقف الآن عند تفاصيل ما جرى.. فلابد من الانتظار حتى تعلن جهات التحقيق عما توصلت إليه، فأنا لست من تلك النوعية، التى تتطوع بالفتوى، والكلام دون أن تقف على تفاصيل ما جرى، لأن الكلام فى هذه الحالة أقرب إلى الاجتهاد، وتوزيع الاتهامات دون سند من معلومات، أو حقائق.. إنما ما أملكه حقا فى يدى الآن هو المسئولية الكاملة، التى تتحملها كثير من الجهات سواء تلك التى قصرت فى عملها.. والمتهم الأول فيها هو اتحاد الكرة، الذى كان يدير أن نشاطا آخر غير المهمة المكلف بها، وهى اللعبة التى تم انتخابه لرعايتها والنهوض بها، والحفاظ على سلامة أطرافها، ومنها.. الجمهور الذى يحضر المباريات.. وهى مسئولية سياسية بالدرجة الأولى.. ولا يمكن أن يفلت منها، حتى لو غابوا عن مسرح الأحداث بالإقالة.. أو الاستقالة!! رحل اتحاد الكرة.. غير مأسوف عليه، وجاء رحيله فى واقعة لم يكن يتوقعها أحد أن تكون السبب.. فقد لاحقته الصحافة ووسائل الإعلام واتهمته بالتقصير.. وسوء الأداء، وإهمال اللعبة، والاهتمام بالمصالح الضيقة، ولم تكن سلامة الجماهير من بين الاتهامات التى كان الإعلام يوجهها إليه.. مفارقة شديدة الغرابة.. وهى إدانة فادحة لكلا الطرفين، الاتحاد والإعلام.. الاتحاد للتقصير، ونفس الأمر بالنسبة للإعلام الذى نسى دوره ومسئولياته فى حماية المجتمع، والعمل على سلامة الجماهير.. والإعلام هو المتهم الرئيسى الثانى فى هذه القضية، وهو الأمر الذى لم يفتنى الكتابة عنه، والتوقف كثيرا عنده.. بعد أن أصبح الإعلام وسيلة من وسائل التهييج، والإثارة، وترسيخ الكراهية، والتعصب بين كل الأطراف.. فكانت هذه هى النتيجة. أخيرا.. لا يمكن أن تعود الرياضة إلى نشاطها مجددا.. دون أن نتغير تماما، وليس مقبولا، ولا معقولا.. أن تتجدد الحياة فى الملاعب وثقافتنا كما هى قبل كارثة استاد بورسعيد.. لا نريد رياضة ولا كرة قدم دون أن نضع دستورا جديدا.. وفكرا جديدا.. وللحديث بقية.