حمل عام 2013 تراجعا جذريا في مسار التغيير السياسي في العالم العربي، فالانقلاب العسكري في مصر، واستمرار الصراع الدموي في سوريا، وتراجع مسار التغيير في ليبيا، وعرقلة التغيير السياسي في تونس واليمن، وعدوان حكومة المالكي على المعتصمين في العراق حملت جميعها سمة مركزية واحدة: أن القوى المعادية للتغير في العالم العربي لم تلتزم بقواعد العمل السياسي، وآثرت اللعب خارج حدود الممكن وطنيا وأخلاقيا، وانتهكت في حربها ضد قوى التغيير والثورة كل المحرمات السياسية والأمنية والإنسانية، من دون أدنى حساب لآثار هذه الممارسات على مستقبل الأوطان ولا مستقبل المنطقة، وبينما كان الثوار الناشطون وقادة حركات التغيير يحلمون بمستقبل ديمقراطي، ويتداولون مصطلحات مثل: الإجماع الشعبي، والعقد الاجتماعي، والبدايات الجديدة، والمصالحة الوطنية، والوحدة ، كانت قوى الانقلاب والعرقلة ترص صفوفها : فلولٌ وأصحاب مصالح وإعلام وعسكر وقضاء ودولة عميقة وقوى طائفية، التقت جميعا على هدف واحد: عرقلة مسار التغيير وجعله شديد التعقيد باهظ الكلفة في سبيل الانقلاب عليه وتدميره واستعادة زمام السيطرة على مقدرات الأوطان وثرواتها ومستقبل أجيالها، وقد نجحت في تحقيق ذلك بالفعل في مصر، بينما تستمر سياسات العرقلة في معظم دول الربيع العربي الأخرى. ومن الواضح الآن أن تحالف الانقلاب والعرقلة هذا لن يستسلم بسهولة، وأنه يعمل من غير حدود ولا ضوابط، حتى ولو كانت تكلفة فعله الإنجرار نحو حروب أهلية أو فوضى عارمة أو أجواء ديكتاتورية فاشية. ومما لا ينبغي الشك فيه أيضاً أن بعض القوى الإقليمية والدولية قد قررت منح القوى المعادية للتغيير فرصة كافية عسى أن تفلح في وقف مسيرة التغيير، لأسباب كثيرة، أهمها الخوف من الإسلام السياسي وقوى الثورة المختلفة، كما أن حالة الفوضى والإضطراب تمكن القوى الدولية من التدخل وصياغة مستقبل المنطقة وفقا لمصالحها وموازين قواها الدولية، وبما أن هذه الأسباب متعلقة بمصالح هذه القوى وأمنها القومي، فليس من اليسير تغييرها في وقت قريب، ولذلك فالرهان على المجتمع الدولي في دعم مسار التغيير خاسر، ولا ينبغي أن تساور الأوهامُ أحدا في ذلك. أمام هذا الواقع فإن قوى التغيير والثورة مدعوة أكثر من أي وقت مضى لمراجعة منهجها، والتأمل في مسارها، والتعلم من أخطائها، ولعل البداية تكمن في التمسك بأربعة أصول ثورية رئيسية: الأول: الهدف الثوري ينبغي أن يكون جذريا وواضحا: الهدف الرئيسي لثورتنا العربية هو اقتلاع جذور الفساد وتأسيس واقع كريم مستقل يمكن شعوبنا من بناء مستقبلها بإرادتها، هذا هو الهدف الصميم للثورة، وهو الهدف الضروري والوحيد الذي تجب العودة إليه على الفور. ينبغي ألا تنشغل قوى التغيير والثورة بمعارك جانبية، ومناورات سياسية، ومفاوضات هامشية، وبما أن مسار العمل السياسي في بلدان مثل مصر والعراق قد اختطفت بالكامل، وتحولت الحياة السياسية إلى بلطجة دموية وعدوان على القوانين والدساتير وتنكر لكل الأعراف والمواثيق، فإن حركات التغيير والثورة مدعوة هي الأخرى إلى نبذ العملية السياسية في هذه البلدان، وحل كياناتها الحزبية وكتلها البرلمانية، والاندماج مع الشارع، من أجل تغيير جذري حقيقي، لا وهم فيه ولا تنازل، تغيير يقتلع جذور النخبة الفاسدة في مجتمعاتنا، ويبدأ عهدا جديدا من الفعل السياسي الوطني، على قواعد الانتماء لمصلحة الوطن وقيم الثورة. إن التأخر في العودة إلى الهدف الرئيس للثورة يمكن أن يحول بلداننا إلى ساحات حرب أهلية، تديرها أجهزة أمنية، وقوى إقليمية، وأمراء حرب وجماعات مسلحة هوجاء. الثاني: البنيان الثوري ينبغي أن يكون ميدانيا لامركزيا ومتماسكا: حرصت كثير من الحركات والأحزاب والتشكيلات السياسية الثورية في السنوات الثلاث الماضية على ذواتها التنظيمية، وعلى مكتسباتها الحزبية، وقدمت مصلحة الفئة المحدودة على مصالح الثورة الواسعة، وغلب عليها منطق اقتسام الغنائم قبل انتهاء الحرب، والاستحواذ على المسار قبل حسم المعركة، وكل ذلك مفهوم في بيئة سياسية مستقرة، ولكنه قصر نظر في بيئة انتقال مضطربة لم تتحقق فيها أهداف الثورة، وبالتالي فإن على هذه القوى أن تؤسس بنيانا ثوريا صلبا ومتماسكا، وأن تتفاعل مع بعضها البعض من غير حدود تنظيمية ولا فروق أيديولوجية ، على قاعدة الاتفاق على الحد الأدنى المشترك من المطالب، مع تأجيل المطالب المختلف عليها إلى حين نجاح الثورة، واقتلاع جذور الفساد. ومع أن التشكيلات السياسية نخبوية في عضويتها، هرمية في شكلها، شديدة التمسك بحدودها وهياكلها ونظمها الأيدلوجية، فإن البناء الثوري ينبغي أن ينتج عن اندماج التشكيلات هذه مع القواعد الشعبية في الميدان، وأن تكون قيادة الثورة لا مركزية فتستعصي على الاقتلاع، وتتاح الفرصة للشباب والطلبة والقوى الحية المختلفة لتأسيس تنسيقياتها الميدانية المختلفة، ولجانها الشعبية الثورية، على أن تقوم القيادات السياسية بمهمة الدعم السياسي والإعلامي والمالي، بعيدا عن منطق الهيمنة وإدارة الميدان عن بعد، فالثورة ينبغي أن تستوطن الشوارع والأزقة والأحياء والمزارع والمساجد والكنائس ، وأن تكون ملكا لكل مناضليها على قدم المساواة، مهما تعددت أديانهم وأعمارهم وأعراقهم وأنتماءاتهم الأيدلوجية. الثالث: توسيع أُفق الوعي الثوري من القُطر الواحد إلى الإقليم: لا شك أن قوى الانقلاب والعرقلة عابرة للحدود، تتشابه أهدافها وأدواتها وأساليب عملها ومصادر تمويلها، وتتعلم من بعضها البعض وتتبادل المعلومات والتجارب، أما قوى الثورة والتغيير فقد فشلت في أن تكون عابرة للحدود، فانكفأت داخل أقطارها، وتفاعلت مع محيطها الوطني المباشر من دون وعي إقليمي جامع، وغاب عن هذه القوى أن المصالح الأقليمية والدولية متشابكة جداً، وأن تداخلها مع السياسات الوطنية على مستوى القطر الواحد شديد، وغاب عن وعي قوى الثورة أن الصراع في العالم العربي إنما هو صراع واحد في صميمه، قد تتغير أشكال التعبير عنه، وتتعدد وسائله وتوقيتاته، ولكن استقرار كل قطر لا يمكن أن يتحقق من دون منظومة إقليمية مساندة ومتسامحة مع التغيير، وبالتالي فهذه القوى مدعوة للتواصل فيما بينها، وتطوير مفاهيم تكاملية تتخطى الهويات الفرعية باتجاه مصالح مشتركة، وقيم جامعة، تؤمن بالتنوع وتحترم التعدد في إطار جامع. رابعا: تحالف عالمي من أجل التغيير: العالم اليوم قرية صغيرة، متداخلة على كل الصعد، ولا يمكن لقوى التغيير والثورة أن تنعزل عن العالم، لأن العالم لا يتنازل عنها، وقد رأينا كيف عاندت مراكز القوى المالية والسياسية الدولية ثوراتنا، وكيف ساندت حركات الانقلاب والعرقلة، وكان تأثيرها شديد الضرر على مسار الثورة العربية، لانها تمتلك أدوات هائلة، فاقتصاد بلداننا مرتبط بمنظومة عالمية رأسمالية شديدة التعقيد، وفي المركز منها النظم المصرفية وقواعد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتشريعات منظمات التجارة العالمية واتفاقات الكتل الاقتصادية وحركة البضائع والضرائب وغيرها، وعلى الصعيد القانوني فالعالم اليوم أكثر تشابكا من أي وقت مضى: محاكم جنايات دولية، وانتربول، ومنظمات حقوق إنسان، وقوانين عابرة للحدود، وإعلام يخترق كل الحجب، وأقليات فاعلة في بلدان أجنبية، وجماعات ضغط ومصالح، وغيرها من أوجه التشابك العالمي، كل ذلك يحتم على قوى الثورة والتغيير أن تولي البعد الدولي اهتمام يليق بتأثيره على بلداننا، وبما أن مراكز القوى الغربية غير متسامحة مع الثورة، فإن قوى التغيير والثورة العربية مدعوة لكي تصبح جزءا من مسار التغيير العالمي، وأن تتحالف مع التيارات والحركات الداعمة لبدائل اقتصادية وسياسية واجتماعية عالمية، لا سيما قوى اليسار في أمريكا اللاتينية وأوروبا وأفريقيا، وتجمعات حقوق الانسان، فالتحالف مع هذه القوى يمكن القوى الشعبية في العالم العربي من تبادل التجارب والاطلاع على البدائل وتأسيس علاقات قائمة على مباديء إنسانية متسامحة.