"ليس لدي شيء جديد لتعليم العالم.. الحقيقة واللاعنف هي قديمة قدم التلال.. كل ما قمت به هو محاولة تجربتهما في أوسع نطاق حسبما استطعت"، لم تكن تلك الكلمات مجرد مقولة ألقاها "غاندي" وحسب، بل منهج اتخذه المناضل في كفاحه ضد العنصرية والتمييز على مدار 79 عامًا . النشأة والميلاد ولد موهندس كرمشاند غاندي في بوربندر بولاية غوجارات الهندية، في 2 أكتوبر من عام 1869، من عائلة محافظة لها باع طويل في العمل السياسي، حيث شغل جده ومن بعده والده منصب رئيس وزراء إمارة بوربندر، كما كان للعائلة مشاريعها التجارية المشهورة. وقضى غاندي طفولة عادية ثم تزوج وهو في الثالثة عشرة من عمره بحسب التقاليد الهندية المحلية ورزق من زواجه هذا بأربعة أولاد. سافر إلى لندن ليدرس القانون ثم عاد سنة 1891 إلى الهند ليمارس المحاماة في بومباي، لم يمر عامين حتى سافر مرة أخرى ولكن ليس إلى بريطانيا ولكن إلى جنوب أفريقيا. بعض الروايات تقول إن سفره كان بسبب عدم حصوله على فرصة عمل مناسبة في الهند تناسب تخصصه، بينما أرجع البعض سفره إلى إحدى القضايا التي كان يعمل عليها، واضطرته للسفر لإنهائه ثم العودة. نظرة على الأوضاع في جنوب أفريقيا لم تكن الأوضاع في جنوب أفريقيا مستتبة للجاليات الهندية هنا، فكان يمارس في حقهم كافة أنواع الاضطهاد والعنصرية، خاصة أن وقتها كانت البلد تحت الاستعمار البريطاني. قرر غاندي توجيه جهوده في أفريقيا إلى الدفاع عن حقوق الهنود أمام الشركات البريطانية التي كانوا يعملون فيها، والحد من نفوذ البيض ضد الأفارقة أصحاب البلاد الأصليين أو ضد الفئات الملونة الأخرى المقيمة هناك. نجح بالفعل "غاندي" خلال 22 عامًا قضاها في أفريقيا، في تحسين أوضاع الجاليات وأهل البلد الأصليين، وانتزاع حقوقهم من الاستعمار، فأنشأ صحيفة "الرأي الهندي" التي دعا عبرها إلى فلسفة اللاعنف، وأسس حزب "المؤتمر الهندي لنتال" ليدافع عبره عن حقوق العمال الهنود، بالإضافة إلى محاربة قانون كان يحرم الهنود من حق التصويت، وتغيير ما كان يعرف ب"المرسوم الآسيوي" الذي يفرض على الهنود تسجيل أنفسهم في سجلات خاصة، وعمل على ثني الحكومة البريطانية عن عزمها تحديد الهجرة الهندية إلى جنوب أفريقيا، وكافح قانون إلغاء عقود الزواج غير المسيحية. سياسة اللاعنف على الرغم أن ما يعرف عن غاندي هو انتهاج السلمية واللاعنف، إلا أنه صرح بأنه قد يستخدم العنف في حالات معينة، فأوضح أن اللاعنف لا يعتبر عجزا أو ضعفا، ذلك لأن "الامتناع عن المعاقبة لا يعتبر غفرانا إلا عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة فعليا"، وهي لا تعني كذلك عدم اللجوء إلى العنف مطلقا، وقال "إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إخصاء عرق بشري بأكمله". اعتبر غاندي سياسة اللاعنف، هي السبيل للتخلص من الظلم وذلك بإبراز ظلم وعنصرية ومساوئ المحتل، ومن ثم إثارة الرأي العام ضده، ومن ثم اقتلاعه أو تحجيمه. ويعارض المهاتما، المبدأ الميكيافيللي الذي يبرر الوسيلة "العنف" من أجل الخير "الغاية"، معتبرًا أنه مهما كان الخير الذي يسعى العنف للإيصال إليه فإنه لن يدوم وسيبقى الشر. نقل الجهود إلى الهند كان لابد، من أن يوجه غاندي جهوده وكفاحه لأبناء وطنه، فكان قرار العودة إلى الهند في عام 1915، وركز عمله العام على النضال ضد الظلم الاجتماعي من جهة وضد الاستعمار من جهة أخرى، واهتم بشكل خاص بمشاكل العمال والفلاحين. تولى غاندي قيادة حزب المؤتمر الوطني الهندي عام 1921، ولكنه ما لبث أن استقال من الحزب ليتفرغ للمشكلات التي كان يعاني منها الريف الهندي. نضال سلمي ضد بريطانيا ظهر مبدأ غاندي في المواجهة السلمية في عدة مراحل: - احتج على مشروع قانون يكرس التمييز في الانتخابات ضد المنبوذين الهنود، فأعلن صياما حتى الموت في 1932، مما دفع السياسيين إلى التفاوض معه والتوصل إلى "اتفاقية بونا". - قاد مسيرة شعبية توجه بها إلى البحر لاستخراج الملح من هناك، حيث كانت القوانين البريطانية تحصر استخراج الملح بالسلطات البريطانية، وفي عام 1931 أنهى هذا العصيان بعد توصل الطرفين إلى حل وسط ووقعت "معاهدة دلهي". - في عام 1940 عاد إلى حملات العصيان مرة أخرى فأطلق حملة جديدة احتجاجا على إعلان بريطانياالهند دولة محاربة لجيوش المحور دون أن تنال استقلالها، واستمر هذا العصيان حتى عام 1941، بموافقته دخول الحرب على أمل نيل الهند استقلالها. السلمية لم تمنع سجنه وفي عام 1922 قاد حركة عصيان مدني صعدت من الغضب الشعبي الذي وصل في بعض الأحيان إلى صدام بين الجماهير وقوات الأمن والشرطة البريطانية مما دفعه إلى إيقاف هذه الحركة، ورغم ذلك حكمت عليه السلطات البريطانية بالسجن ست سنوات ثم عادت وأفرجت عنه في عام 1924. وفاته جاء مقتله كتبعات لتقسيم الهند عقب نيل استقلالها، إلى دولتين بين المسلمين والهندوس، وهو ما حذر منه غاندي كثيرًا، فكان نتاجه عنف واضطرابات في عموم البلاد أسقطت الكثير من الضحايا. ولم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة، واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية المتعصبة خيانة عظمى فقررت التخلص منه، وبالفعل في 30 يناير 1948 أطلق أحد الهندوس المتعصبين ثلاث رصاصات قاتلة سقط على أثرها المهاتما غاندي صريعا عن عمر يناهر 79 عاما. وقال الكاتب الأمريكي David Saks، تعقيبًا عن ما نشر في حق غاندي وتشويه صورته، إنّ «غاندي سيظل شخصية نبيلة، كرس جزءًا كبيرًا من حياته لمحاربة الظلم العنصري، وهو بلا شك أعظم القادة في التاريخ، والمفكرين الذين لاتزال حياتهم، تُلهم الملايين في جميع أنحاء العالم، فلابُد الابتعاد عن الخوض في أسراره وحياته الشخصية».