الغضب والتعصب هما عدوا الفهم الصحيح.. حكمة عظيمة خلدها الزعيم الهندي المهاتما غاندي في لبناته السلمية بصرح حركة "اللاعنف" التي أرسى مبادئها الاحتجاجية على مدار أعوام نضاله وكفاحه من أجل رد حقوق المستضعفين سواء كانوا عمالا أو فلاحين أو أقليات مضطهدة. وفي ذكرى اليوم العالمي للا عنف الذي أقرته الأممالمتحدة عام 2007، ترصد "التحرير" محطات زعيم الحركة السلمية الاحتجاجية والقائد الهندي غاندي. الطريق إلى بلاد «التمييز» ولد موهانداس كرمشاند غاندي في 2 أكتوبر 1869 في ولاية جوجارات الهندية، وعائلته هندوسية محافظة ولها باع طويل في العمل السياسي، إذ تقلد جده ومن بعده والده منصب رئيس وزراء إمارة بوربندر، وتزوج وهو في عمر 13 عاما وأنجب 4 أولاد. وسافر غاندي إلى بريطانيا عام 1982 ودرس القانون في لندن ثم عاد إلى الهند 1890، وسافر إلى جنوب أفريقيا بعد تعاقده مع شركة هندية هناك لتحسين مستوى دخله ومعيشته. «اللا عنف» تقهر العنصرية اصطحب غاندي أسرته إلى جنوب أفريقيا عام 1893، وخلال تواجده هناك اطلع على التمييز العنصري من الحكومة التي يحتكرها أصحاب البشرة البيضاء، بعد امتهان من دون لون بشرتهم والسماح لعمليات نهب وسرقة للمغتربين والوافدين إليها من دول أخرى منعا لاستفدام مهاجرين جدد. وأشعلت حكومة جنوب أفريقيا شرر النيران في عيون غاندي حين فرضت ضرائب باهظة على الهنود والآسيويين، فدافع عن العمال قانونيا، كما جمع استمارات ضد قانون جديد بمنع الهنود من التصويت في الانتخابات مما زاد من تعاطف الجاليات الأخرى معه، وأسس جريدة للدفاع عن حقوق جاليته بعدة لغات، ودفع ذلك سلطات الحكومة البيضاء لاعتقاله أكثر من مرة. واندلعت مجددا معركة قانونية وشعبية عام 1906 حين صدر قانون بإلزام الهنود بإعادة قيد أسمائهم بالوثائق وإلا سيتم ترحيلهم، فاندلعت تظاهرات واسعة في العاصمة جوهانسبرج، حتى أرسل غاندي وفدا إلى بريطانيا للاعتراض على القانون. واستمرت المعارك بين بين الهنود وحكومة جنوب أفريقيا، بث خلالها غاندي في متابعيه رؤيته السلمية للاحتاج المبنية على مبادئ الحق وتحمل آلام التعذيب وتوابع الاعتقال دون الرد بالعنف، حتى أعلنت تسوية الحكومة لقضية الهنود بإعطائهم مزيد من حقوقهم مقابل مغادرة غاندي إلى الهند عام 1914. حرب السلمية ضد المستعمر عاد غاندي من جنوب أفريقيا إلى الهند في عام 1915، وتزعم حزب "المؤتمر الهندي" الداعي للقومية الهندوسية، واتحد مع السياسيين الإسلاميين بجمعية "إنقاذ الخلافة" وحركة "العصبة الإسلامية" على فكرة استقلال البلاد من تحت السيطرة البريطانية. غاندي مع زعيم "العصبة الإسلامية" محمد جناح
وأصبح غاندي الزعيم الأكثر شعبية وركز عمله العام على النضال ضد الظلم الاجتماعي من جهة وضد الاستعمار من جهة أخرى واهتم بشكل خاص بمشاكل العمال والفلاحين والمنبوذين، واتخذ سبلا سلمية احتجاجية ك"الصوم حتى الموت" عام 1932 اعتراضا على مشروع قانون يكرس التمييز في الانتخابات ضد المنبوذين الهنود، مما دفع بالزعماء السياسيين والدينيين إلى التفاوض والتوصل إلى "اتفاقية بونا" التي قضت بزيادة عدد النواب "المنبوذين" وإلغاء نظام التمييز الانتخابي. كما تحدى غاندي القوانين البريطانية قبلها في عام 1930، والتي كانت تحصر استخراج الملح على السلطات الإنجليزية وقاد مسيرة شعبية توجه بها مسافة 400 كيلومتر إلى البحر لاستخراج الملح من هناك دون دفع ضرائب، ودعت مسيرته لعصيان مدني استمر عاما. ونشر غاندي خلال تلك الفترة مبادئه اللاحتجاجية باللا عنف أو ما سيمت ب"الساتياجراها" أي قوة الحقيقة، وفي عام 1931 أنهى هذا العصيان بعدما توصل الطرفين إلى حل وسط ووقعت معاهدة "غاندي - إيروين". التطرف لا دين له حذر غاندي خلال عام 1945 من تقسيم الهند بالتزامن مع الاستقلال عن الاستعمار البريطاني وحاول إقناع محمد علي جناح الذي كان على رأس الداعين إلى هذا الانفصال بالعدول عن توجهاته لكنه فشل في إثنائه عن اقتطاع جزء للهندوس وآخر للمسلمين. وسادت حالات العنف بين المسلمين والهندوس وقعت على خلفيتها مذابح بين الطرفين إثر الاستقلال عام 1947 دعت لاستقلال باكستان عن الهند. ودعا غاندي إلى إعادة الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين طالبا بشكل خاص من الأكثرية الهندوسية احترام حقوق الأقلية المسلمة، لكن تلك الدعوات لم ترق لأهل طائفته واعتبرها بعض الفئات الهندوسية المتعصبة خيانة عظمى فقررت التخلص منه، ولقي مصرعه في 30 يناير 1948 بثلاث رصاصات من متعصب هندوسي فارق بعدها الحياة عن عمر يناهز 78 عاما غلبها بالدفاع عن حقوق الأقليات والفئات المضطهدة. مجسم "اللاعنف" بمقر الأممالمتحدة أودى المتطرف الهندوسي بحياة غاندي دون أن يدرك أن منظمة الأممالمتحدة ستكرمه يوما ما وسستتخذ من مولده عيدا دوليا أقرته باسم "يوم اللاعنف". وربما لم يعلم غاندي نفسه أن دفاعه عن اضطهاد الأقلية المسلمة من أهل طائفته سيجني عليه الموت، لكنه نفسه أرسى مبدأ الحقيقة مع النفس والسلام مع الآخر قائلا: "إنني على استعداد لأن أموت في سبيل قضايا كثيرة ولكنني لست على استعداد لأن أقتل في سبيل أي قضايا".