في الخطوات الأولى من مهنة الصحافة، يختلف المشهد يومًا عن يوم ليبتعد كثيرًا عن النظرة التي كانت في مخيلتك، لتصطدم بواقع صحفي، تغيب فيه آليات العمل المهني، أمام حسابات المصالح التي يلعبها صحفيون "كبار" لا يهمهم سوى أكبر قدر من العوائد في حساباتهم البنكية، وتفريغ الساحة في المقابل أمام كثير من المواهب الصحفية الشابة. الجميع يتسائل عن الحلول لأزمات مهنة الصحافة، بينما كثيرون من أصحاب المناصب الصحفية المرموقة الذين يملؤن الفضاء الصحفي والإلكتروني بالانتقادات، يعدون هم أنفسهم الأزمة. من اللقائات الصحفية التي لا أنساها، هو الحوار الذي جمعني مع الناشر هشام قاسم، الذي يعد خبيرًا حقيقيًّا بكل ما تشمله عملية إصدار صحيفة، بداية من المهنية والخطوط التحريرية التي تتعلق بالمحتوى، إلى الشق المادي والتنفيذي والذي لا يقل أهمية أبدًا عن الجانب التحريري، والجميع يعلم أنه كان من أهم الأسماء التي صنعت رحلة نجاح جريدة "المصري اليوم" التي أشرف عليها منذ بدايتها، ليتركها بعد ذلك لانتقاده لكثير من الأوضاع بالجريدة، ويبدأ بعدها في تأسيس مشروعه الخاص. في هذا الحوار تحدث هشام قاسم بالفعل عن خيارات وحلول خارج السياق، فبجانب قرائته الجيدة للمشهد الإعلامي بتفاصيله وخباياه وفضائحة وفساده، لم يكتفِ فقط بالنقد أو المشاهدة من بعيد، بل ما زال متمسكًا بحلمه أن يُنشئ مشروعًا صحفيًّا يقوم وفقًا لأسس علمية، تُساير مفهوم الصحافة الحديثة، والآليات الجديدة في الصحافة العالمية، وأمام ذلك رفض كثير من عروض رجال الأعمال الذين يريدون استغلال أي مشروع إعلامي، كورقة رابحة في لعبة الحسابات التي أصبحت الأبرز على الساحة مؤخرًا. من الأشياء التي توقفت عنها في الحوار، فكرة جمع الصحفي بين أكثر من وظيفة، وذلك من الجانبين المادي والمهني، لم يكن يتحدث هشام قاسم وقتها سوى على ضرورة أن يعمل الصحفي في مكان يستوعب قدراته، مقابل الحصول على مقابل جيد ومُرضي، لا يجعله يحتاج إلى أن يعمل في وظيفة أخرى، أو أن يعمل بما يفوق طاقته فيضعف إبداعه، فتصبح المهنة مجرد وظيفة لتحصيل الأموال، وأنه من الأفضل أن يُعطي الصحفي كل طاقته وإبداعه وتركيزة في مكانٍ واحد يُقدره ماديًّا، بدلًا من أن يتحول إلى تاجر متنقل يبيع بضاعته بين الصحيفة والقناة، أو أن يبيع مادة الصحيفة للقناة كما يحدث مؤخرًا، والسؤال الأهم، كيف يكون الحديث عن تدعيم الصحافة أمام منافسة التلفزيون والوسائل الإعلامية الأخرى، بينما أصبحت الصحف تقوم بدور "سكرتارية" صحفية تُعطي مادتها على طبق من ذهب إلى الفضائيات، لتفرغ الجريدة من أي ملامح تميز أو انفراد من الممكن أن تقوم به، والسبب الأكبر في ذلك هو تولي المسؤولين بالجرائد بداية من رئيس التحرير مرورًا برؤساء الأقسام، لمناصب أخرى في قنوات ومحطات فضائية، ويعد هذا واحدًا من أسباب تراجع وضعف الصحف. للأسف أمام ساحة الانتقادات والمزايدات، ما زلنا نفتقد شخصيات مثل هشام قاسم، الذي وإن اختلفت معه، فإنه يجبرك على أن تستمع إلى كل ما يقوله من حلول علمية نحو صحافة حديثة، تعيد الاعتبار إلى صاحبة الجلالة مجددًا.