تظل مشكلتنا الكبرى فى السيناريو وفي الكتابة، بينما تراجعت كثيرا مشكلة العناصر التقنية من صوت وصورة وعناصر فنية تعبر وتترجم الدراما، والغريب أن العكس كان سائدا فى سنوات ماضية، حيث كانت أفلامنا ترفض فى المهرجانات بسبب مشكلات تقنية فى النسخ التي نرسلها، بينما كانت لدينا سيناريوهات جيدة، وكان تيار الواقعية الجديدة ومخرجوها ينفذون أفلامهم بمعدات متواضعة قديمة، ويتم تحميض الأفلام فى معامل بائسة. لكن مشكلة السيناريو، وهو العنصر الأساسي والمحوري، ما زالت واضحة، رغم الجهد الإبداعي والتقني الواضح، ويمكنك أن ترى ذلك بوضوح مثلا فى فيلم "أوسكار عودة الماموث"، الذي أخرجه هشام الرشيدي عن قصة أحمد حليم وسيناريو وحوار مصطفى عسكر وحامد الشراب. حقق الفيلم إنجازا تقنيا مبهرا، فلأول مرة نرى تنفيذا ممتازا لمشاهد الكائنات العملاقة المنقرضة، ولأول مرة يستعاد هذا العالم الذي نشاهده فى الأفلام الأمركيية الخيالية صوتا وصورة ومؤثرات، وبفريق مصري مبدع، ولكن هذا الإبهار لا يستند مع الأسف الى سيناريو جيد، حيث تأرجحت المعالجة بين الجدية والخفة، وبين خط أقرب الى العنف والرعب والوحشية، وخط أخر يذكرنا بأفلام ديزني ، حيث تنشأ علاقة عاطفية بين حيوان الماموث المنقرض، وبين طفلة صغيرة جميلة تعلّقت به، وتأرجحت الحكاية بين أجواء صراع ومطاردة وقتل ودمار، وخط كوميدي يستفيد من براعة وموهبة الممثل محمد ثروت، ولكنه يمنح الحكاية سخرية وخفة لا تحتملها، يضاف الى ذلك ثغرات كثيرة فى التفاصيل، حرمت الدراما تماسكها ومصداقيتها. لا يقلل ذلك من إعجابي بطموح هذا الثنائي : هشام الرشيدي مخرجا وأحمد حليم كاتبا للقصة، فقد حقق فيلمهما الأسبق "ماكو" إنجازا تقنيا معتبرا فيما يتعلق بالتصوير تحت الماء، وبشكل مبهر حقا يضيف حقا الى تجربة مدير التصوير الكبير سعيد شيمي فى أفلامه المعروفة مثل "جحيم تحت الماء" و"جزيرة الشيطان"، ولكن فيلم "ماكو" أيضا كان يعاني من مشاكل فى السيناريو، وإن كان بدرجة أسوأ من فيلم "أوسكار عودة الماموث". لم يكن يشغلني فى "أوسكار" التأثر المتوقع بالسينما الأمريكية، فهم أساتذة هذا النوع فى العالم، وسلسلة أفلام "حديقة الديناصورات" ما زالت حاضرة ومؤثرة وقادرة على استدعاء تلك الكائنات المنقرضة لأغراض مختلفة، وكم أسعدني أن فيلمنا استدعى حيوان الماموث، الجد القديم للفيل، لكي يحكي قصة تخصه، ومن خلال كائن غير مألوف نسبيا، ولكن كان واضحا بعد فترة من الوقت أن معادلة النوع لم تنضبط، وأن الحبكة والحكاية لم تكونا بحجم الإبهار الذي حققه هشام الرشيدي، وهو أحد مؤسسي شركة معروفة فى مجال المؤثرات البصرية، وهى نفسها الشركة التي شاركت فى إنتاج الفيلم. قبل العناوين، نعرف أن منظمة ما فى دولة ما قامت بتجارب لإحياء الكائنات المنقرضة كالماموث والديناصورات، وباستخدام الذكاء الصناعي، والتكنولوجيا الحديثة، لتصبح تلك الكائنات أدوات حربية مدمرة، لا تؤثر فيها الأسلحة الحديثة، ولكن أثناء نقل بعض هذا الكائنات بالطائرة، تسقط تلك الكائنات فى الصحراء الليبية والمصرية، وتسقط أيضا فى المياة الإقليمية المصرية. سيتجاهل السيناريو مشهدا أساسيا وهو العثور على الماموث الصغير، إذ سنراه فجأة فى حديقة حيوان أبو النمرس (!!) وتحت عهدة شخصية كاركاتورية يمثلها د سعد (محمد ثروت)، ووضع الماموث فى حديقة عادية للحيوان أمر غير منطقي بالمرة، وخصوصا أن مسؤولا أمنيا كبيرا يمثله محمود عبد المغني يعرف أهمية هذا الكائن، ويرفض إعادته للمنظمة التي يفترض أنها سرية. فجأة يكلف المسؤول الدكتورة أروى ( هنادي مهنى)، وهي تدير مركز أبحاث عملاق، بأن تنقل الماموث من أبو النمرس (!!) الى مركز الأبحاث، على أن يقوم الحارس والقناص المحترف آدم ( أحمد صلاح حسني)، بحراسة الماموث، وينضم إليهما د سعد نفسه، باعتباره المسئول عن عهدة الماموث . نتابع المنظمة وهي تبعث رجالها لاستعادة الماموث، ومرة أخرى نسمع عن محاولة لسرقة الماموث دون أن نراها، ويلجأ الثلاثي آدم وأروى وسعد الى أغرب وسيلة لإخفاء الماموث فى مزرعة يملكها والد زوجة آدم، وكان آدم قد جلب الماموث كهدية لعيد ميلاد ابنته الصغيرة الوحيدة ليلى (!!) التي سرعان ما تعلّقت بالماموث، وبدأت بينهما علاقة محبة وتعاطف، وبدأ الماموث فى التجاوب مع هذا الحب، بينما حدثت طفرة هائلة، وأصبح الكائن أكبر حجما، وبأنياب طويلة. سيتواصل الصراع عندما يعرف أفراد المنظمة مكان الماموث والمزرعة، دون أن نعرف كيفية معرفتهم بذلك، المهم أنهم سيخطفون الطفلة، حتى يستدرجون الماموث الذي يحبها ، وسيدخل على خط الصراع ديناصور من الكائنات التي ظهرت فى الأسكندرية، وأحدثت تخريبا هائلا، وتركت مئات الضحايا، وستتحدد المواجهة الأخيرة فى وسط القاهرة، التي تم إخلاؤها، وستبدأ أفضل أجزاء الفيلم، حيث يواجه الماموث الديناصور، ويقاتل آدم ضد أفراد الخلية التي خطفت ابنته، ويتابع المسؤول الأمني هذه الحرب الشرسة، التي تتدخل فيها أيضا قوات الجيش، والطائرات الحربية المصرية. بدت التفاصيل ساذجة للغاية، وبينما يُفترض أنها حرب ذكاء بالأساس، فإن الطرفين يفتقدان الى هذا الذكاء، فالخلية القادمة من ليبيا تتحرك بوحشية ورعونة، وزعيمهم يضرب آدم ثم يتركه فلا يقتله ! والماموث طيب للغاية، ولا نعرف بالضبط لماذا أنفقوا عليه لاحيائه وسط كائنات متوحشة، والمسؤول الأمني يختفي ويظهر حسب الظروف، ويقف متفرجا أمام نقل الماموث الى مزرعة فى مكان مكشوف، والدكتورة أروى مندهشة مثلنا من نتائج تقوم بإجرائها، ولا تفسر لنا نمو ذكاء الماموث العاطفي، وعلاقته الخاصة مع الطفلة ليلى، ووزوجة آدم، أو ربما طليقته لا أعرف، تغار من الدكتورة أروى، وتهاجم آدم دون رحمة، بينما يظهر محمد ثروت بخفة ظله، وحضوره المكتسح، فيسرق الأضواء من الجميع، وينسينا ما يفترض أن نشعر به من خوف وقلق نتيجة مطاردة الخلية المستمرة. كان هدف الخط الكوميدي التخفيف والتلطيف، ولكنه بأداء ثروت صار يعمل فى عكس اتجاه الفيلم، والحقيقة أن هذه النوعية تحتاج أولا الى اختيار الجو العام للمعالجة، وهو هنا عنيف وشرس بل ومرعب، وكان يجب أن يكون كذلك من البداية الى النهاية، وبدون شخصية كارتونية مثل دكتور سعد، وهي ظريفة فى حد ذاتها ، ولكنها بعيدة أجواء هذه الكارثة التي نعيشها. ظل الفيلم يتأرجح بين الحكاية الساذجة، وإبهار حقيقي ومدهش فى تنفيذ مشاهد الحركة، سواء بين آدم والخلية، أو فى كل المشاهد التي ظهرت فيها الديناصورات، وفى مشاهد الماموث كلهأ، وبعناصر تقنية ممتازة يقودها هشام الرشيدي ببراعة، ويوظفها باحترافية، مثل صورة إبراهيم رمضان، ومونتاج محمود حمدي، وموسيقى كريم عبد الوهاب، وهي من أفضل ما سمعت هذا العام من موسيقى الأفلام، وكل فريق المؤثرات البصرية الرائعين، وكل فريق الصوت المكساج، والذين حققوا انجازا فنيا كبيرا، يمكن مقارنته بأفلام عالمية من هذا النوع. كان أحمد صلاح حسني مناسبا تماما فى دور الحارس آدم، بينما كانت مشكلة هنادي مهنى الواضحة فى طريقتها السريعة فى الإلقاء، والتي جعلتنا لا نفهم ما تقول فى مشاهد كثيرة، وكانت الطفلة ليا سويدان رائعة فى دور ليلى، ولولا أن شخصية د سعد عملت فى اتجاه عكس الحبكة المثيرة والمخيفة، لكان هذا الدور من أظرف أدوار محمد ثروت، وليس ذنبه بالطبع هذا التوظيف الخاطيء لإمكانياته ولحضوره الكبير. الإنجاز التقني أمر يستحق التنويه والحفاوة والإعجاب، ولكنى أتمنى أن يواصل هشام الرشيدي وأحمد حليم طموحهم بعد "ماكو" و"أوسكار عودة الماموث" من خلال عناية أكبر بالقصة والسيناريو. أعتقد أنهم يمكنهم أن يحققوا الكثير، بسدّ هذه الفجوة الأساسية، وبالتأسيس لنوع جديد يمكننا أن نمصّره، ونبرع فى تنفيده، مع وجود كل هذه المواهب اللامعة والمبدعة.