«أكتوبر» تنفرد بنشر صفحات من مذكرات الأستاذ أنيس منصور.. بخط يده بقلم د. مجدى العفيفى لماذا الحكي؟ ولماذا البكاء؟ إضاءة صفحات كتبتها يد عرفت كيف تضحك وتبكي فى آن واحد، يد أنيس منصور التي لم تعبأ بزخرف الشهرة، بل اكتفت بأن تسجل لحظاتها الأخيرة بصدق خافت… (حكيت وبكيت) ليست سيرة تروى خطوة بخطوة، بل همس طويل فى أذن الزمن، اعترافات تصعد من عمق شخصي لتلقي ضوءا على عالم كامل من الأفكار والعواطف، وكأنما أراد أن تكتشف بعد أن ينطفئ صوته ويغيب حضوره، سلمها لتلميذه الأقرب الدكتور مجدي العفيفي ليكون شاهدا على هذا البوح المؤجل، وقارنا لما لم يكتب صراحة، وليحمل أمانة الكشف ويضىء العثمات بما وراء السطور، بعد أن يصمت كل شىء؛ بعد رحيله، وبعد رحيل رفيقة عمره، وفقا لوصيته. فى هذه المذكرات ندخل متاهة من الأسئلة المعلقة حيث تتداخل الفلسفة بالعاطفة والاعتراف بالتمويه والبوح بالصمت عبر بابين؛ باب يسأل «لماذا الحكي ولماذا البكاء؟» حيث ينتزع الكاتب أقنعته ويعرض أمامنا لعبة الذاكرة والندم والفكاهة التي لا تخفى عنها المرارة… والباب الثاني يفتح نافذة على نساء حملن فى وجوههن فصلا من حياته من الملكات إلى نجمات السينما، من زوجات الفلاسفة والطغاة إلى ظلال السلطة… قراءات تجوب علاقة الرجل بالمرأة بين الغواية والسلطة والفلسفة… هنا، بين المذكرات الأنيسية، يقف تلميذه الوفى .. مجدي العفيفي كقارئ وراعٍ، يضيء ويشرح، يحفظ الأمانة ولا يغير الجوهر. و«أكتوبر» تعيد نطق الصوت كما ينبغي بصيغة الوفاء وبشغف الحفظ، كتاب لا يقرأ كما تقرأ الكتب: إنه همس من وراء الغياب، ونداء أخير من كاتب عاش بالأسئلة ومات بها…. اقرأ ، كأنك تجلس مع رجل لم يترك الحياة إلا وقد حبا فيها سرًا واحدًا، إن الكلمة تبقى حين يكتبها إنسان صادق.. افتح الصفحة… واسمع وربما تبتسم وتبكي… وحين يغلق هذا الكتاب لن ينتهي الحكي……
ومضة.. الحكاية.. فعلُ وجودٍ لا يُحتمل تأجيله.. الحكاية ليست رفاهية… ليست ترفَ الوقتِ الفائض، ولا حكمة المُتأملين بعد أن تهدأ العاصفة. الحكاية، فى عرف الذين كتبوا قلوبهم قبل أن يكتبوا كتبهم، ليست اختيارًا. بل هي قدرٌ، يتربص بهم فى كل كلمة صمت، وفى كل دمعة مؤجلة. أنيس منصور، هذا العصفور الذي لم يكفّ عن «الصوصوة» منذ أن تعلم كيف يضع كلماته على ورق الحياة، لم يكن يسرد ليُعجب أحدًا، ولم يكن يبكي ليستدرَّ تعاطف قارئ غريب، هو فقط كان يحكي… لأن الحكاية فعلٌ لا يساوم، ولأن الصمتَ – مهما طال – يلد الحروف فى النهاية. فى هذا الباب، نحن لا نقرأ «أنيس».. بل نسمعه يهمس لنا عن حكايته مع الحكاية ذاتها. لماذا نحكي؟ لماذا نبكي؟. لماذا نسجل العمر سطرًا بعد سطر، وكأننا نحتمي من النسيان بالنُطق، ونُكمل ما عجز القلب عن تحمله، بالقلم؟ ستجد هنا تساؤلاتٍ لم تكن تبحث عن إجابات.. بل تبحث عن رفيق فى الدهشة؛ المذكرات ككشفٍ ذاتي، كإزاحة حجاب بين الكاتب والقارئ، كأداة لرؤية الذات والعالم… هي ليست أوراقًا نخطّها لنُبرر، ولا اعترافاتٍ نُسجلها كأننا نقف فى قفص اتهام، بل هي ضرورة كالأكسجين، لا خيار لنا فيها.. ولأن كل ذاكرة تحتاج عنوانًا، وكل وجعٍ يبحث عن كلمة يختبئ خلفها.. يأخذنا أنيس فى الفصل الثاني، حيث «حكيت وبكيت» ليست جملةً عابرة، بل شهادة ميلاد لنصّ لا يؤمن بالفواصل، ولا يقف عند النهايات. العنوان وحده يحمل سرّ النص، كأنه مفتاح لبيتٍ يسكنه الحب والألم، الحكمة والتأمل، الرحيل والبقاء.. ثم، حين تكتمل الطقوس، يفتح لنا أنيس خزائنه فى الفصل الثالث – النص الكامل- كمن يضع قلبه أمامنا، دون رتوش، ولا حراسة. وتأتي الرؤية التحليلية كرفيق يُمسك بيد القارئ، ليدله على الدروب الخفية خلف كل كلمة.. خلف كل دمعة محبوسة.. وخلف كل حكاية لا تزال تبحث عن ختامها.. هذا الباب ليس مقدمة لكتاب. بل بدايةٌ لرحلة، بين الحكي والبكاء، بين أنيس وذاته، بين الكاتب وظله. * ●● فعل اعتراف.. أم فعل تبربر ؟ هذه المذكرات تحمل عدة أبعاد فكرية وعاطفية تجعلها نصًا غنيًا ومعقدًا، سواء من حيث المحتوى أم من حيث كونها مكتوبة بخط اليد. ومن هذه الأبعاد: – البعد الفكري: التأمل فى الزمن والذاكرة والحب المذكرات ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي تأمل عميق فى مفاهيم الزمن والذاكرة والحب. الكاتب يتساءل عن الماضي، هل هو أقوى من الحاضر؟ وهل يمكن للإنسان أن ينسى؟ هذه التساؤلات الفلسفية تتقاطع مع آراء مفكرين مثل «نوفاليس» و«أينشتاين» و«شوقي» مما يضفي على النص بُعدًا فكريَّا ممتزجًا بالعاطفة. – البعد النفسي: الصراع الداخلي والتردد العاطفي الكاتب يعيش حالة صراع داخلي بين الماضي والحاضر، بين الحب القديم والجديد، وبين الرغبة فى النسيان والعجز عنه. هناك تردد بين قبول الحب الجديد والبقاء فى أسر الذكريات، مما يعكس صعوبة الانتقال العاطفي. النص مليء بالتأملات الذاتية والأسئلة التي تعكس الحيرة وعدم اليقين. – البعد الأدبي: أسلوب الرسائل وتوظيف الشعر المذكرات مكتوبة بأسلوب الرسائل، مما يمنحها طابعًا شخصيًا وحميميًا. هناك توظيف للشعر سواء من «المتنبي» أم «أحمد شوقي» أم«مصطفى صادق الرافعي» مما يمنح النص بعدًا جماليًّا وأدبيًّا.. هذا الاستخدام للشعر يعزز التأملات العاطفية ويثري التجربة القرائية. – البعد الوجودي: البحث عن المعنى والفراغ الروحي المذكرات تعكس قلقًا وجوديًا حول الحياة والحب والوحدة. الكاتب يتحدث عن اختياره للوحدة، لكنه فى الوقت نفسه يعاني منها. هناك إحساس بالضياع، وكأن الكتابة هي محاولة لإيجاد إجابة أو مخرج من هذه الدوامة العاطفية والفكرية. ماذا يعني أن تكون هذه المذكرات مكتوبة بخط اليد؟ الصدق والعفوية: المذكرات المكتوبة بخط اليد تحمل طابعًا صادقًا ومباشرًا. الكتابة اليدوية تمنح النص عفوية وتلقائية لا توجد فى النصوص المطبوعة، مما يعكس حالة الكاتب لحظة الكتابة. التأمل والتفاعل البطيء مع الزمن: الكتابة اليدوية عملية أبطأ من الكتابة الرقمية، مما يسمح للكاتب بالتفكير فى كل كلمة يكتبها. هذا يمنح النص عمقًا فكريًا وعاطفيًا أكبر، حيث تشعر وكأن الكلمات نُحتت ببطء، وكأنها جزء من تأمل شخصي طويل. البقاء خارج العصر الرقمي: كون المذكرات مكتوبة بخط اليد، قد يعني رغبة الكاتب فى الحفاظ على طابع شخصي وخاص، بعيدًا عن الحداثة الرقمية وسرعتها. إنه شكل من أشكال المقاومة للاندماج فى عالم سريع الإيقاع، والتمسك بلحظة الكتابة كفعل بحد ذاته. أثر الزمن والذكريات: المذكرات بخط اليد تُشعر القارئ بملمس الزمن، وكأنها قطعة من الماضي محفوظة بطريقة فريدة. ربما تكون الكتابة اليدوية وسيلة للكاتب لخلق أثر ملموس لذكرياته، كما لو كان يريد ترك بصمة محسوسة بدلًا من مجرد كلمات إلكترونية يمكن حذفها بسهولة. إن هذه المذكرات ليست مجرد سرد لأحداث شخصية، بل هي انعكاس لحالة فكرية ونفسية وأدبية غنية. هي تأمل فى الحب والزمن والنسيان، وتعبير عن صراع داخلي بين الماضي والحاضر، وبين الوحدة والرغبة فى التواصل. كونها مكتوبة بخط اليد يضفي عليها طابعًا حميميا وصادقًا، ويجعلها أشبه بوثيقة شخصية تحمل بصمة الكاتب بكل تقلباته العاطفية والفكرية. إذا كان الفيلسوف الفرنسي «جان بول سارتر» قد نشر كتابه «كلمات» كونه اعترافات أو ترجمة حياته، ونشرت «سيمون دى بوفوار» اعترافاتها فى «مذكرات فتاة» و«قوة الأشياء» و«قوة العمر» وفى «وفاة هادئة جدا» ونشر طه حسين «الأيام» ونشر العقاد «فى بيتي» ونشر المازني «قصة حياة» ونشر سومرست موم«الخلاصة».. فإن أنيس منصور سجل مرحلة القلق فى حياته وحياة أبناء جيله فى معظم كتبه: «وداعًا أيها الملل، من أول نظرة، فى صالون العقاد كانت لنا أيام، عاشوا فى حياتي، مذكرات شاب غاضب، مذكرات شابة غاضبة، البقية فى حياتي» وقبل ذلك كانت رحلاته «حول العالم فى 200 يوم، بلاد الله خلق الله، أعجب الرحلات فى التاريخ، غريب فى بلاد غريبة، أنت فى اليابان وبلاد أخرى». وسجل قلقه النفسي فى مؤلفات: «يسقط الحائط الرابع، الوجودية، أوراق على شجر، شباب شباب، اثنين اثنين، جسمك لا يكذب، كما سجَّلَ سنواته البكر فى كتب «البقية فى حياتي» و«إلا قليلا» ثم «صندوقي الأسود». فى منظور أنيس منصور أن الفن ليس إلا نوعا من الاعتراف، أي نوعا من إزالة الحائط الرابع بين الفنان وبين الناس، فيحدثهم عن نفسه، بلا تحفظ، بلا حواجز، سواء نشر الفنان اعترافاته وهو حي، أم نشرها بعد وفاته، فإذا نشر الفنان اعترافاته وهو حي، كان معنى ذلك أنه لا يخشى أن يصارح الناس، فإذا نظر إليه الناس، نظر إليهم أيضا، وإذا رآه الناس عاريا واجههم، فهو قد استعد لهذه اللحظة لهذه المواجهة، وإذا نشر اعترافاته بعد وفاته، فمعنى ذلك أنه لم يقوَ على مواجهة الناس، لم يقو على نظرات الناس، إنه فضل أن يفقأ عينيه حتى لا يراهم، أن يموت، ومعنى موت الفنان قبل أن ينشر اعترافاته، أنه قرر أن يحرم الناس من متعة إلصاق العار به، إنه فوت على الناس لذة تعذيبه، فنشر اعترافاته بعد موته. وأنيس منصور تسلطت على نفسه أن يدرس ويتعمق ويحلل ويكتب بلا رحمة وأحيانًا بلا تحفظ، وأن يتحدث إلى نفسه على مسمع من الناس وعلى مرأى أيضًا، فيرفع الكلفة، ويزيل الحواجز، ويصبح عاري الحس والنفس أمام المرآة، وينسى أن هذا يقال وهذا لا يقال. ولكن عذره أنه كان يريد أن يعرف نفسه بما فى نفسه، وفي نفوس الناس، فنحن جميعًا تحت الجلد سواء، الجلد يفصل بيننا من ناحية الشكل، ولكن تحت الجلد دم من نوع واحد، كرات بيضاء وحمراء وتدخل القلب ليضخها إلى بقية الأعضاء والغدد وإلى المخ. وعندما يتذكر أمثلة من شبابه ومن طفولته فهو لا يندهش لها، وإنما يذهب إلى أبعد وأعمق وأقرب، لعله يعرف ماذا حدث وكيف حدث، وهل كان من الممكن أن يحدث غير ذلك، مستحيل، لأنه كان يؤمن أنه لو عاد إلى تلك الأيام ما فعل غير الذي فعل! إذن.. لماذا يعترف الناس بعيوبهم؟ لماذا يكتب الناس مذكراتهم أو اعترافاتهم أو ما لا يعرفه الناس؟ لماذا يتعرى الناس أمام الناس؟! هناك إجابات كثيرة لدى أنيس منصور، رأي يقول: إنما يكتب الأدباء مذكراتهم لأنهم يريدون أن يكشفوا عن حياتهم.. أو إخفاء بعض المعلومات.. أول من كتب هذه المذكرات فى الغرب القديس «أوغسطين» وصارت هذه الاعترافات نموذجًا لما يجب أن تكون عليه المذكرات.. واعترافات «جان جاك روسو» قال فيها ما يقال وما لا يقال وما لا يقال أكثر. فمثلًا ذكر أن عنده شذوذًا، وسبب الشذوذ أن لديه انحرافًا جنسيًّا، ولذلك أوصى جان جاك بأن تنشر مذكراته بعد وفاته.. وكانت اعترافات العقاد اسمها (أنا) وقال فيها ما يحب (أنا) وما يكره (أنا).. و«د. لويس عوض» اعترف بأنه لا ينجب لا هو ولا أخوه، وأن أخته ماتت عذراء فى السبعين من عمرها فى أحد المستشفيات.. واعترف «موسى صبري» بأنه أسلم وارتد ثم أسلم، وبأنه ترك لأولاده أن يختاروا الدين الذي يريدونه. أما هو فقد كتب مذكراته أربع مرات.. وبلغ فيها زمنًا طويلًا، وكان يعود إليها وبعد أن يمضي فيها أشواطا يتوقف. قال لي ذات مرة ونحن نعد مذكراته التي صاغها فى كتابه «صندوقي الأسود»: «الذي حيرني أن هناك فترة من عمري كلما حاولت التعبير عنها لا أحبذ الاستمرار فى ذلك، وقلت لا بد أن أذهب إلى محلل نفساني، أحكي له ويستدرجني ويحلل أعماقي.. ووجدت أنني أستطيع ذلك، وجلست وتأملت طويلًا، ووجدت السبب أنه حدث فى ذلك الوقت أن صفعني المدرس.. وكسر تمثالًا لي كنت أراه فى الطفولة، وقد حاولت فى كل المناسبات ألا أتعرض له وأن أتستر عليه، فأنا كرهت الخوف وكرهت الإشارة إليه، ولما كشفت ما أخفيه عشرات السنين انكشفت حياتي الصغيرة أمامي ووجدت ردودًا على ما ارتكبه المدرس». من هنا كانت محاولته الخامسة فى «صندوقي الأسود» وكان يقول: «أنت وكثير من الناس أيضًا يسألني: يا أخي لماذا تفضح نفسك هكذا؟ واندهش كيف أنني فضحت نفسي، إنني لم أفضح نفسي، ولا أحد، إنما أردت أن أعرف، أن أكشف، أن أنكشف، أن أكتشف، أن أكاشف، هذا كل ما هناك، عملًا بنصيحة أستاذنا العظيم «سقراط»: «اعرف نفسك بنفسك» بعض الناس عندما يقرأ ما كتبت عن نفسي وعن نفوس الآخرين يشعر بالخجل.. لماذا؟ لأنه لا كان يخفي شيئًا، فكشفته أنا». حملت الصفحة الأولى من «صندوقي الأسود» الذي نشرته منجمًا فى الصفحة الأخيرة بجريدة «أخبار اليوم» عام 2011 ثم نشر كاملًا: «أحاول أن أكتب مذكراتي أو قصة حياتي فإنني أتوقف وأتساءل: وما فائدة ذلك عند القارئ؟ أنا أقول وأحكي وأقرأ.. فماذا استفاد؟ وفى معظم الأحيان أجيب عن هذا السؤال: ولا حاجة.. وإذا كان القارئ يريد أن يعرف فأمامه كتبي.. ولكن هل يستطيع أحد أن يقرأها كلها ليعرف من أنا.. فأنت لا تستطيع أن تنقل البحر فى زجاجات لكي تحللها وتعرف طعم ماء البحر.. كوب واحد يكفي بل أقل من كوب.. وإننا نحلل الدم والبول، قليل من الدم وقليل من البول وهي تنوب عن كل الدم الموجود فى الجسم، فكتاب واحد يكفي أو كتابان، أما أكثر فهذا ما سوف يقرأه المؤرخون أو النقاد، إن قرأوا.. ولنفرض أنهم قرأوا… فماذا؟ والجواب: ولا حاجة. والسؤال: فلماذا تكتب؟ والجواب: لأنني أريد أن أقول. أنت لا تسأل عن العصفور: لماذا يصوصو، فأنا أصوصو.. وكذلك كل الكتَّاب، ابتداء من أبينا «هيرودوت» حتى كاتب هذه السطور.. إنني مثل فلاح يزرع حديقة.. ويرويها.. من يراها تعجبه أو لا تعجبه.. ولا أتوقف. إن النحلة التي تفرز العسل لا تتذوقه، ولم تتعلم فى ملايين السنين أن تكف عن إفراز العسل، وإذا أرادت النحلة أن تدافع عن نفسها خرجت كل أحشائها وماتت ولم تتعلم.. وكذلك الكاتب والشاعر والمطرب والفلاح والعامل، بل الوردة نفسها تطلق شذاها ولو لم يشمها أحد.. إن الفلاح أصبح لا يشمها ولا يحس بها، وكثيرًا ما ضاق بها تمامًا، كما يضيق كل إنسان بعمله. وفى كل مرة أكتب عن حياتي – وقد حاولت ذلك كثيرًا فى كتبي – كنت أتوقف عن الحديث عن السنوات الأولى عن أبي وأمي، لا أجد مبررًا للكتابة عنهما.. مع أن هذا ضروري، جدًّا، والسبب أنهما قد أثرا فى تكويني سلبًا أو إيجابًا، إنه أثر قوي.. ربما كانت أمي هي الأكثر أثرًا، لأنها الأكثر حضورًا فى حياتي.. وهنا يتوقف القلم عن الكتابة.. لماذا؟ انقطعت الحرارة.. جف القلم.. انسدت الأبواب فى وجهي.. وخرست الدنيا.. اختفت المعاني فلم تعد لها ضرورة .. أظلم نفسي؟!. هذه شرائح من صوت أنيس منصور.. فما هي الرؤية الكامنة فى هذا البوح؟ ماذا عن هذا الماوراء؟ ما هي الأبعاد؟ وما هي الدلالات لهذه الاعترافات؟ 1 – المذكرات كإزالة للحواجز بين الكاتب والقارئ فى فلسفة أنيس منصور، المذكرات ليست مجرد استعراض للأحداث، بل هي فعل من أفعال المصارحة المطلقة. يرى أن المذكرات هي شكل من أشكال الاعتراف، وهي تعرية الذات أمام الآخرين، تمامًا كما يحدث فى المسرح عندما يُكسر «الحائط الرابع» بين الممثل والجمهور. الكاتب الذي ينشر مذكراته فى حياته يواجه القارئ مباشرة، بينما من ينشرها بعد وفاته يتجنب هذه المواجهة لكنه يترك أثره للزمن. 2 – المذكرات كوسيلة لاكتشاف الذات تتعدى كتابة المذكرات لدى أنيس منصور مجرد التوثيق، فهي بمثابة حوار داخلي يحاول فيه الكاتب فهم نفسه بشكل أعمق. في كتابه «صندوقي الأسود» نرى كيف أن استرجاع الذكريات يفتح أبوابًا مغلقة فى العقل الباطن، حيث أدرك منصور أن حادثة من طفولته (صفعة المدرس وكسر التمثال) كانت مؤثرة فى تشكيل مخاوفه وتوجهاته دون أن يدرك ذلك طوال حياته.. وهنا تكمن أهمية المذكرات، فهي ليست فقط سردًا لما حدث، بل محاولة لاستكشاف «كيف ولماذا حدث» تمامًا كما قال سقراط: «اعرف نفسك بنفسك».. 3 – المذكرات بين التوثيق الشخصي والتاريخي فى التاريخ الأدبي، لم تكن المذكرات مجرد تسجيل للحياة الشخصية، بل وثائق تعكس عصورًا كاملة. مثلًا، مذكرات «جان جاك روسو» لم تكن فقط كشفًا عن حياته، بل كانت إعلانًا عن أفكار ثورية شكلت عصر التنوير. وبالمثل، مذكرات«العقاد» و«طه حسين» كانت توثيقًا لحياة فكرية وسياسية واجتماعية، وليست مجرد تسجيل لحياتهم الخاصة. وهنا نجد أن أنيس منصور لم يكتفِ بكتابة مذكراته الشخصية، بل سجل من خلالها قلق جيله، وتحولات عصره، مما جعلها شهادة زمنية ذات بعد أوسع. 4 – هل المذكرات فعل اعتراف أم فعل تبرير؟ يطرح أنيس منصور سؤالا جوهريا: لماذا يعترف الناس بعيوبهم فى مذكراتهم؟ هل هو تطهير للذات أم نوع من التبرير؟ يرى أن بعض الكتَّاب يكتبون مذكراتهم لإظهار حقيقة أنفسهم، بينما يكتبها آخرون لإخفاء أجزاء معينة أو تقديم روايتهم الخاصة عن الأحداث. مذكرات «جان جاك روسو» مثال على ذلك، حيث ضمّنها حقائق صادمة، لكنه انتقى ما يريد كشفه وما يريد حجبه. 5 – المذكرات كحتمية وجودية يشبِّه أنيس منصور الكتابة بالغريزة الطبيعية، فكما أن العصفور لا يتوقف عن الغناء، والوردة لا تمنع رائحتها حتى لو لم يشمها أحد، كذلك الكاتب لا يستطيع إلا أن يكتب. هنا تصبح المذكرات جزءًا من جوهر الكاتب، ليست قرارًا واعيًا بقدر ما هي تعبير حتمي عن ذاته. هذا المعنى يتجلى فى مقولة «همنجواي»: «حين تحطم ما عندك من أشياء ثمينة بالكتابة عنها، لا بد أن تتقاضى مالًا وفيرًا». فهو يرى أن الكتابة عن الذات فعل مكلف نفسيا، لكنه ضروري تمامًا مثل الألم الذي يرافق أي ولادة جديدة. 6- الخوف من الكتابة أم الخوف من الصمت؟ رغم أن أنيس منصور كان شجاعًا فى كشف ذاته، إلا أنه يعترف أن هناك أجزاء من حياته لم يتمكن من كتابتها بسهولة. توقفه المتكرر أمام ذكرياته الأولى عن والديه دليل على أن هناك مشاعر يصعب التعبير عنها حتى للكاتب نفسه. وهنا نجد المفارقة: الكاتب الذي لا يخشى كشف نفسه أمام الجميع، قد يخشى مواجهة ذاته عندما تكون المشاعر أكثر عمقًا. 7 – هل المذكرات ضرورة أم اختيار؟ لا يكتب الكتّاب مذكراتهم لأنهم يريدون ذلك فقط، بل لأنهم لا يستطيعون تجنب ذلك.. إنها ليست مجرد تسجيل للحياة، بل بحث عن فهم أعمق، وكشف للأسرار، ومحاولة لإعادة كتابة الذات عبر الكلمات. بالنسبة ل أنيس منصور، الكتابة عن النفس ليست فضيحة، بل هي رحلة داخلية تكشف ما لا يُقال، وتحاول فك شيفرات ما حدث ولماذا حدث.