– 49 عامًا على انتصار الإرادة المصرية في 5 يونيو 1975 ياسر حسني مصر دولة قوية لا يعرف شعبها ولا جيشها الهزيمة أو الانكسار، فمهما مرت بها من أزمات تصدت لها وعادت أقوى من الأول. ولم يكن ما حدث في 5 يونيو 1967 بقادر على تغيير طبيعة الشعب المصري أو جيش مصر، فكان القرار بالخروج من آثار النكسة بعد أيام معدودة فبدأت حرب الاستنزاف وإعادة بناء الجيش والمقاومة الشعبية وتكاتفت كل القوى الوطنية وفئات الشعب المصري لتدعم الجيش ليعود أقوى مما كان وتسترد مصر أرضها المحتلة وترد الصاع صاعين للجيش الإسرائيلي بانتصارات السادس من أكتوبر 1973. كان من آثار النكسة توقف الملاحة فى قناة السويس من 5 يونيو 1967 واستمر الوضع كذلك حتى أعلن الرئيس أنور السادات فى خطابه التاريخي فى مجلس الشعب يوم 29 مارس 1975 إعادة فتح قناة السويس، قائلا: «إنني لا أريد لشعوب العالم التي تهتم بالقناة معبرا لتجارتها أن تتصور بأن شعب مصر يريد عقابها لذنب لم تقترفه، إنهم جميعا أيدونا ونحن نريد قناتنا كما يريدونها طريقا لازدهارنا، سوف نفتح قناة السويس ونحن قادرون على حمايتها نفس قدرتنا على حماية مدن القناة التي قمنا ونقوم بتعميرها، فلقد مضى ذلك العهد الذي كانت فيه المسافات حائلاً دون العدوان». وفى 5 يونيو 1975 أعيد افتتاح القناة للملاحة العالمية، وقال السادات فى خطاب تاريخي: «أعلن لابن هذه الأرض الطيبة الذي شق القناة بعرقه ودموعه، همزة للوصل بين القارات والحضارات، وعبرها بأرواح شهدائه الأبرار لينشر السلام والأمان على ضفافها، يعيد فتحها اليوم للملاحة من جديد، رافدا للسلام وشريانا للازدهار والتعاون بين البشر». المدمرة 6 أكتوبر ثم صعد الرئيس أنور السادات على ظهر المدمرة «6 أكتوبر» ليبدأ بها أول رحلة، عبر قناة السويس، فى قافلة تبدأ بكاسحتي ألغام، ثم المدمرة «6 أكتوبر» فاليخت «الحرية»، وسفينة القيادة بالأسطول السادس «ليتل روك» والسفينتين المصريتين سوريا وعايدة ثم لنشين عسكريين والقاطرة «مارد» وفى نهاية القافلة، ثلاث سفن حربية والسفينة القطرية «غزل» وعند وصول القافلة إلى الإسماعيلية، توجه الرئيس إلى مبنى الإرشاد لإزاحة الستار عن اللوحة التذكارية بمدخل المبنى 15، إيذانا بعودة العمل فى أحد أهم الممرات الملاحية بالعالم.. كان اختيار الرئيس السادات لتاريخ 5 يونيو 1975 ليكون يوم إعادة افتتاح القناة، ليؤكد أن نكسة يونيو كانت مجرد «كبوة» فى مسيرة الدولة المصرية سرعان ما تخطتها لتستكمل جمهوريتها الأولى نحو بناء دولة قوية عصية على الاحتلال أو الهزيمة لها مكانتها السياسية والاستراتيجية على خريطة الوطن العربي والمنطقة بل العالم بأسره. وكانت تشكيلات وأسماء القطع البحرية فى القافلة الأولى، التي عبرت قناة السويس بعد إعادة افتتاحها تمثل رسائل وجهتها مصر للعالم وللدول التي تحالفت مع العدو الإسرائيلي ضد مصر وجيشها وشعبها. فكان بداية القافلة كاسحتي ألغام، للتدليل على أنه تم تطهير القناة من الألغام، التي زرعها جيش الاحتلال الإسرائيلي؛ ليمنع الجيش المصري من عبور المانع المائي للقناة وتحرير سيناء من يد العدو. ثم حملت المدمرة اسم «6 أكتوبر» لتؤكد أن نصر أكتوبر 1973 دمر أسطورة الجيش الإسرائيلي، الذي لا يقهر ودمر كذلك وللأبد حلم دولة إسرائيل الكبرى «من النيل للفرات»، كما حمل اليخت اسم «الحرية»، ليؤكد أن مصر دولة حرة أبية لا تقبل الإملاءات أو المساومات أو الاستسلام لأي قوة غاشمة أو محتلة مهما كانت. وحملت السفينتان المصريتان بالقافلة اسمي سوريا وعايدة، للإشارة إلى دولة سوريا الشريك فى حرب أكتوبر ضد العدو الإسرائيلي، وكذلك ل «عايدة» فى إشارة لأوبرا عايدة التي كانت أيقونة الاحتفال بافتتاح قناة السويس فى الحفل التاريخي والأسطوري عام 1869. المارد المصري ثم جاءت القاطرة التي تحمل اسم «مارد» لتؤكد أن المارد المصري قد عاد ولن يسمح لأحد مهما كان بتخطي حدوده وفى نهاية القافلة، ثلاث سفن حربية والسفينة القطرية «غزل» لترمز للدعم العربي لمصر وجيشها فى حرب الكرامة واستراد الأرض المحتلة. وعلى مدار 49 عاما تحتفل مصر فى «الخامس من يونيو» بإعادة افتتاح قناة السويس أمام الملاحة البحرية، بعد غلقها لمدة 8 سنوات عقب حرب 1967، وبعد انتصارات مصر فى حرب أكتوبر المجيدة، لتنهي سلسلة من الخسائر فى حركة التجارة العالمية وصلت ل7 مليارات دولار، بأسعار سبعينيات القرن الماضي. ولم يكن غلق القناة كما قال الرئيس السادات «لعقاب العالم على ذنب لم يقترفه ألا وهو العدوان الإسرائيلي على مصر» وإنما كان وقف الملاحة بالقناة لحماية الشعب المصري والعالم من جنون العدوان الإسرائيلي ولتطهير القناة من الألغام والقنابل والصواريخ التي خلفتها الحرب، وهي الخطة المتكاملة، التي قامت بها هيئة قناة السويس بالتعاون مع القوات المسلحة، بتكليف من الرئيس السادات. وبالفعل تم تطهير القناة بعمق الغاطس الموجود قبل حرب 1967، ليتم الافتتاح الثاني لقناة السويس بحضور وفود من جميع دول العالم، ورؤساء شركات الملاحة العالمية. ووقع الفريق أول محمد عبدالغني الجمسي، نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة آنذاك، وثيقة تسليم القناة من الإدارة العسكرية إلى «المدنية»، إلى رئيس هيئة قناة السويس حينها المهندس مشهور أحمد. وفي اليوم التالي، شهد الرئيس السادات احتفالات مدينة السويس الباسلة بعودة الملاحة البحرية، وأعطى إشارة البدء بعبور أول قافلة من الجنوب إلى الشمال متجهة من السويس إلى بورسعيد. تطهير المجرى الملاحي كانت زيارة الرئيس السادات للقناة وإقليمها للتأكد من عودة الحياة التي كانت قد توقفت تماما بالمجرى الملاحي ومرافق قناة السويس لثماني سنوات كاملة، وتحول المجري الملاحي للقناة ومنشآت الإدارة فى الإسماعيلية والإدارات المساعدة فى السويس وبورسعيد إلى سلسلة من الخرائب والأطلال التي لا تصلح لشىء. كما كان مجرى القناة قد تحول قبل إعادة افتتاحها إلى بحيرة كبيرة من الألغام والقنابل من كل الأنواع والأحجام، أما ضفتا القناة فكانت تحوي على الأقل مليون لغم، مما جعل تطهير القناة وإصلاح منشآتها وبناء وحداتها من جديد وإعادة حركة الملاحة تحد ضخم أمام مصر والإدارة المصرية للقناة. وبدأت أعمال التطهير بعد عشرة أيام فقط من توقف القتال، حيث جرت أول عملية استطلاع لمعرفة حقيقة ما حدث للقناة وتحديد حجم الخسائر والبحث عن نقطة بداية العمل. سد الدفرسوار وكان أكبر العوائق بالقناة وأخطرها التي واجهت عمليات تطهير القناة يتمثل فى سد الدفرسوار الخرساني، الذي أقامته إسرائيل وسدت به المجري الملاحي فى مدخل البحيرات المرة حتى يكون الوسيلة الفعالة لتأمين انسحاب قواتها من الغرب إلى الشرق، وتكون من 8 آلاف متر من الأتربة والأحجار فوق منسوب المياه و12 ألف كتلة خرسانية زنة الواحدة 4 أطنان و3504 كتل حجر طبيعي تصل زنة الواحدة منها أكثر من 5 أطنان و19 ألف متر من الصالات الحديدية المحملة بالأحجار، ثم كانت هناك تلال الرمال التي أقامتها القوات الإسرائيلية على الضفة الشرقية بطول القناة على ارتفاع ما بين 18 إلى 20 مترا، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من القنابل والألغام والخسائر فى منشآت المرفق الملاحي والمعدات البحرية. ورغم صعوبة إزالة سد الدفرسوار إلا أن إرادة وتصميم 200 من المهندسين والعمال المصريين المتخصصين، تحدت الصعاب واستطاع الرجال بقيادة الخبير بالقناة المهندس شلبي جابر بركات باستخدام ما تيسر حشده من معدات فى تلك الظروف العصيبة، وخلال ما لا يزيد على 6 أشهر حولوا هذا السد المنيع إلى تلال من الخرسانة والخردة على الشاطئ الغربي للقناة، بتكاليف لم تزد وقتها على 238 ألف جنيه، وبيعت الخردة الناتجة بحوالي 100 ألف جنيه، أي أن التكاليف الفعلية لم تزد على 138 ألف جنيه، ووفر الرجال بذلك 4 ملايين جنيه كانت ستتقاضاها الشركات الأجنبية لو نفذت المشروع. ولم يكن سد الدفرسوار هو العائق الوحيد، بل كانت هناك عوائق أخرى واجهت مصر خلال تطهيرها للقناة تتمثل فى 10 عوائق كبيرة غارقة بين الكيلو 9 من القطاع الشمالي بالقرب من بورسعيد والكيلو 158 أقصى القطاع الجنوبي عند السويس وهي «السفينة الإسماعيلية، والسفينتان مكة 2.1 والكرامة 23، والقاطرة منجد، والكراكة ناصر، والقيسون الخرساني، والكراكة 15 سبتمبر، والقاطرة بارع، والناقلة مجد، والكراكة 22». ثم رصدت عمليات المسح لمجرى القناة ظهور 120 قطعة أخرى من العوائق المتوسطة وهي عبارة عن «صالات، لنشات، معديات، قطع سيارات عسكرية»، بالإضافة إلى 500 عائق صغير من بقايا الطائرات وانفجارات القنابل وأجسام حديدية وأحجار وكتل خرسانية وغيرها. التطهير بأياد مصرية كانت البداية فى ديسمبر 1973 حينما بدأت الأيدي المصرية فى انتشال العوائق والمعدات الغارقة بعد صدور الأمر بعودة أجهزة هيئة القناة من مواقع التهجير فى القاهرة والإسكندرية، وأسندت هذه العملية للسواعد المصرية بعد أن طلبت الشركات الأجنبية 50 ألف دولار عن كل يوم عمل وتقدم فريق الإنقاذ البحري ليطلب القيام بكل مسئوليات رفع وانتشال العوائق المتوسطة والصغيرة بل والاشتراك بصورة فعالة مع الشركة الأمريكية التي ستتولى رفع العوائق ال 10 الغارقة فى القناة. ولأن القيادة المصرية تثق دوما فى أبناء مصر الأوفياء وقدرتهم على تحدي الصعاب وتعليم العالم الدرس تلو الآخر، تم إسناد العملية لفريق الإنقاذ البحري الوطني الذي لم يكن يزيد على 25 عنصرًا، ورغم صغر عددهم كانوا على قدر المسئولية فقاموا بتنفيذ أول تكليف بانتشال 3 سفن وناقلات من مدخل القناة الجنوبي لإعداده لدخول سفن التطهير، وجاءت النتائج سريعة، حيث تم انتشال ناقلة المياه الكونجو وسفينة الإنفاد الجمل وقاطرة أخرى كبيرة فى وقت قياسي أقل من الزمن المتفق عليه وبتكاليف أقل بحوالي مليون و200 ألف جنيه عما كانت تطلبه الشركات الأجنبية وبمعدات أقل. ثم توالت إنجازات الفريق المصري حتى بلغت جملة ما قام به هذا العدد البسيط من البشر بانتشاله وحده 35 ألف طن من القطع الغارقة تشمل 120 عائقا متوسطا وما بين 560 إلى 600 عائق صغير و99 عائقا من غاطس السويس وحده. وفى فبراير 1974 بدأت مشاركة القوات البحرية فى عمليات تطهير القناة من الألغام، حيث تم تشكيل فريق عمل من 100 رجل من ذوي الكفاءة العالية قاموا بتنفيذ 95% من عمليات التفجير تحت الماء أو على الشاطئ وانتشلوا 420 من الحطام والبقايا، التي دارت عبر وفوق القناة وأمضوا 180 ألف ساعة تحت قاع القناة ونفذوا واحدة من أكبر وأسرع عمليات التطهير فى العالم، فيما تولى رجال سلاح المهندسين فى القوات المسلحة إزالة 680 ألفا من كل الأنواع خلال أوسع عملية تطهير لضفتي القناة. فيما قامت كل من أمريكا وفرنسا وبريطانيا عن طريق قوتهم العلمية وخبرتهم العملية فى مجال الكشف عن الألغام والقنابل والبحث عنها وتفجيرها بتقديم المعدات الإلكترونية المتقدمة لمصر للعمل فى هذه المجالات، واستطاعت مع القوات البحرية المصرية وسلاح المهندسين المصري ومن خلال 3 عمليات خطيرة هي قمر السحاب، وقمر الأرض، ونجم قمر الأرض، وخلال شهور قليلة أن تعلن للعالم أن قناة السويس هي أنظف مجرى ملاحي فى العالم.