بعد انتهاء مهمتي خلف خطوط العدو ، والتي استمرت 180 يوما ، وعودتي إلى وحدتي الأم، توقفت ذاكرتي تمامًا لمدة خمسة وعشرين عامًا عن ذكر تلك الأحداث التي دارت خلالها لسبب غريب، هو أنني كلما تذكرت إحداها تدافعت أمامي كل الأحداث التي حدثت – فى وقت واحد – كل تفاصيلها وبأدق أحاسيسي ومشاعري التي عشتها فى كل حدث، فيرتفع ضغط دمي وتزداد ضربات قلبي – رغم أنى لم أكن أشعر بذلك وقتها- ورغم سعادتي الغامرة واعتزازي الكامل بها – ورغم إلحاح قادتي وزملائي المستمر علىَّ لكتابتها، إلا أني كنت أفشل فى كل مرة أحاول الاستجابة فيها لنداءاتهم، حتى جاءت لحظة لم أستطع مقاومتها، حين صرخ فى وجداني واجب وطني يقول اكتبها فإنها ملك للأجيال ليس من حقك كتمانها أو تركها للنسيان، فجمعتها بين دفتي كتاب تحت عنوان (180 يوم خلف خطوط العدو)، ويعلم الله كم عانيت فى كتابتها من أجل أبنائي فى سلاح الاستطلاع خاصة وفى القوات المسلحة كلها ولكل المصريين ورفاق السلاح على امتداد وطننا العربي عامة . لقد ضمت دفتي الكتاب أحداثًا عن ليلة أغرب من الخيال سبقت نشوب الحرب، ودور الاستطلاع المستمر فى كل ربوع سيناء طيلة السنوات الست من 5 يونيو 1967 حتى يوم 6 أكتوبر 1973، والذي جعل سيناء كتابًا مفتوحًا أمام القيادة العامة للقوات المسلحة تخطط منه وتدير أعظم خطط الحرب فى أكتوبر 1973، ثم تفاصيل عمل مجموعتي بين أحشاء العدو فى تلك الحرب، وحصاد ذلك الجهد أمام أعيننا مباشرة ونحن (أنا ومجموعتي) نرى قواتنا الجوية تدمر أهداف العدو فى عمق سيناء من مطار متقدم للعدو إلى لواء مدرع امتد به الفزع إلى تدمير بعض دباباته بنفسه فى اليوم التالي بعد أن تدمرت إحدى كتائبه بصواريخ طائراتنا فى اليوم الأول، وكم كانت كل مشاعرنا متلهفة لمعرفة مدى فرحة المصريين بهذا العمل الذي تقوم به القوات المسلحة وهل شعروا بالنصر ونسوا هزيمة 1967. لقد امتدت بنا الأيام فى العمل المستمر خلف خطوط العدو بعد إيقاف إطلاق النيران وتوقف القتال على جبهة القتال لأن مهمتنا هي الاستمرار فى اكتشاف ومتابعة جميع قوات العدو على مدار الساعة لا فرق بين حرب وسلام. لقد مرت الأيام خلف خطوط العدو فوق جبال سيناء وفى ربوعها بأحداث صعبة نصارع فيها الأمل فى بقاء الحياة وفكرنا فى نسف أنفسنا فى وجه العدو إذا حاول أسرنا عن مقاومته، من شدة حالة الوهن والضعف التى وصلنا لها من الجوع والعطش بدون طعام أو ماء، وتكليفنا بمهام إضافية من القيادة ونحن فى أصعب الظروف، وكان المشي فوق السحاب، ومواجهة العدو وجها لوجه دون أن يرانا، إحدى عجائب قدرة الله التى أحاطتنا فى أوقات وظروف شتى صعبة وعجيبة.. وكم كانت عودة الأمل أشبه باستقبال مولود رائع بعد ولادة متعثرة ضاع فيها الأمل.. وهذه إحدى صفحات الأمل التي مررنا بها وتأمل سيناء باستثمارها. الطوفان يجرفنا استيقظنا فى هذا اليوم، فلم نر للشمس أثرًا.. وأخذت أنظر إلى السماء فأرى أجسامًا طائرة لونها أبيض وهي أشبه بالريش الصغير المتطاير، ثم بعد ساعات رأيت هذا الريش يزداد حجمه وتزداد كثافته فأصبح مثل رزم من ورق الفلوسكاب الأبيض المتطاير فى السماء، ثم يهبط على قمة جبل الحيطان الكائن فوقنا والذي نوجد على سفحه، فإذا لون الجبل أبيض وقد غطته الثلوج، ثم بدأنا نسمع أصواتًا حولنا آتية من فوق الجبل أقرب إلى صوت المروحيات، ويزداد الصوت شيئًا فشيئًا كلما مر الوقت ونحن فى أماكننا المجهزة على الميول الأمامية لهذا الجبل، ولكنها أقرب إلى السفح بخلاف نقطة المراقبة الموجودة فى الأعلى، وكانت أماكننا المجهزة عبارة عن حفرة تسع 3:2 أفراد بعمق متر أو أكثر ومغطاة بغطاء مُموه من قماش الووتر بروف المغطى بطبقة من البلاستيك الشفاف.. نضع تحته متاعنا وأسلحتنا وذخائرنا.. وكلما مر الوقت وازداد الصوت أحاول التحرك فى اتجاهه ولكنى لم أستطِع تبينه.. إنه أشبه بصوت الريح بينما الرياح ساكنة ثم فجأة.. أرى أشجارًا من فوق الجبل تتحرك نحونا وصخورًا تتدحرج معها مختلفة أحجامها، ثم شلالات من المياه من خلفها تدفعها أمامها كأن سدًا كان يحجب خلفه مئات الآلاف من الأمتار المكعبة من المياه قد انهار. كان اندفاع المياه والحجارة والأشجار أسرع من حركتنا وردة فعلنا، فلم نجد أنفسنا إلا والمياه تقذفنا أمامها بمتاعنا وأسلحتنا وذخائرنا وتدفعنا فى اتجاه جرف سحيق يصب فى وادٍ لا يقطعه إلا تقاطع الطريق المتجه من «تمادا» شرقًا إلى مدخل «متِلا» غربًا مع الطريق القادم من نخل إلى صدر الحيطان (على ممر متلا)، والموجود عليه نقطة شرطة عسكرية للعدو أيٌ إننا على بعد دقائق معدودة سوف نكون نحن وكل متاعنا أمام تلك النقطة. بعناية من الله وحده استطاع كل منا أن يمسك بإحدى الصخور قبل السقوط فى الجرف، بينما سقط معظم متاعنا واندفع مع المياه وكانت عيوننا تتابعها فى لهفة ملؤها اليقظة والحذر خاصة الأسلحة وشنطة الخرائط.. وبقينا على هذه الحال حتى حل الظلام، واندفاع شلالات المياه من فوق الجبل لا يتوقف بينما امتلأ الجرف بالمياه وتحول إلى بحيرة.. وبصعوبة بالغة تمكٌنا من الابتعاد عن مجاري السيول والوقوف على صخرة كبيرة توفر لنا الأمان، ولكن عيوننا لم تتوقف عن متابعة متاعنا الذي تجرفه السيول، خاصة السلاح والخرائط فرأيناها وقد علقت ببعض الشجيرات التي اعترضت طريقها داخل الوادي.. وبجهد جهيد تمكنا من استعادة السلاح والخرائط أما الأجهزة اللاسلكية فقد كانت فى نقطة المراقبة الأكثر أمانًا لكونها خارج مجاري السيول. وحمدت الله كثيرًا على هذا الفضل أن استعدنا الأسلحة والخرائط وأن الأجهزة اللاسلكية بقيت بحالة جيدة لم يمسسها سوء.. أما الطعام فقد ضاع كل ما لدينا من دقيق وشاي وسكر ولم يعد الكبريت صالحًا بعد أن أتلفته المياه. ونقضي ليلتنا فوق الصخرة مبللين عن آخرنا بالمياه يكاد البرد يجمد أطرافنا ولم نعد قادرين على إشعال النار بعد ذوبان الكبريت.. ونبقى على هذه الحال حتى تشرق شمس اليوم التالي، لنرى أجمل شمس طلعت على سيناء، وسماءها صافية، أما جبالها فقد اغتسلت، واغتسلت أشجارها وشجيراتها وازدهرت خضرتها.. وأما عن المياه فقد أصبح لدينا عدد من البحيرات الطبيعية مختلفة المساحات، الماء يملؤها بشفافيته التي تظهر تحتها وحولها ألوان الصخور المختلفة رائعة الجمال.. إننا نستطيع أن نشرب فلا عطش بعد اليوم، ويكفى ما مر علينا من أيام وشهور لم نكن نشرب إلا بغطاء الزمزمية، وكم مر علينا من أيام بلا ماء.. إننا نستطيع الاستحمام بل والسباحة… إن لدينا مشكلة صغيرة هي أننا لم يعد لدينا أيٌ قدر من الطعام، والشيخ سليم لن يأتي قبل أربعة أو خمسة أيام. ونقضي ثلاثة أيام بلياليها بلا طعام نهائيًا وملابسنا مبللة لن يكتمل جفافها قبل يومين.. لم نتوقف لحظة عن مراقبة العدو وإبلاغ جميع المعلومات عنه، وفى مساء اليوم الثالث يأتي إلينا الشيخ سليم (من أبناء سيناء التقيناه صدفة وتعاون معنا فى الإمداد بالماء والطعام)، ونحن نرتجف من شدة البرد تكاد أطرافنا تتوقف عن الحركة.. لم نسأله عن طعام.. بل كان السؤال الذي نطقنا به جميعًا فى صوت واحد: أين الكبريت؟ ونشعل النيران فى الأعشاب التي كنا نجمعها كل يوم.. على أمل أن يأتي سليم بالكبريت ويقم سليم بإعداد الخبز لنا من الدقيق الذي أتي به، بينما نحن جميعًا نلتف حول النار العالية تكاد نلقي بأنفسنا داخلها طلبًا للدفء، ويفرغ سليم من إعداد الخبز ويطهو لنا بعض حبات البطاطس التى أحضرها معه، بينما أدفع أحد الأفراد بالطعام إلى زميله الموجود فى نقطة المراقبة فيقول لي سوف أبقى أنا مكانه وأرسله إليكم ليذوق طعم الدفء الأهم من الطعام. وبينما الدفء يتسلل إلى أجسادنا وبدأنا نستفيق ونحن نتخلص من شبح الجوع القاتل، بدأت أشم رائحة غريبة لم أعهدها فى سيناء قبل اليوم، فأسأل قائد ثان المجموعة: (هل تشم شيئًا؟)، فيقول :(نعم، إنها رائحة غاز سام). وأقول له: (هل تذكر أي نوع من الغاز هذا الذي يشبه رائحة التفاح؟). فيقول :(ربما غاز الزارين).. وكيف يستعمله العدو هنا؟ ربما يوجد مخزن للعدو قريب من هنا والريح هي التي تنقل رائحته ويرانا الشيخ سليم على هذه الحال من الهمس والتحسب فيسأل: إيش بيكم (ماذا بكم)؟ فأخبره بما نتخوف منه. فيرد علينا فى دهشة: إنه تفاح جمعته من مقلب القمامة الخاص بالعدو ووضعته أمام الجمل ليأكله، ويسمع الأفراد الجالسون هذا الكلام فيهتفون فى صوت واحد: تفاح… الجمل!! ويندفعون نحو الجمل ويخطفون جوال التفاح المعطوب وينقضون عليه يأكلونه وهم يرددون: الجمل يأكل تفاح ونحن نموت جوعًا!! ويستلقي سليم على ظهره من شدة الضحك وهو يقول: احذروا أن يصيبكم ما يصيب الجمل من أكل التفاح. ونسأل فى دهشة: ماذا يصيبه؟ إنه يظل يومين يُخرج ريحًا أشد من الغازات التي تخافونها.