الفكر العالمي وإشكاليات الثقافة.. من «طه حسين» إلى «سبيفاك»

ختام فعاليات الدورة ال 31 لمعرض أبوظبي للكتاب
لم تكن فعاليات الدورة الحادية والثلاثين من معرض أبوظبي للكتاب، التي اختتمت فعالياتها فى الثلاثين من مايو الماضي مجرد دورة استثنائية من دورات معارض الكتب العربية، التي تشهد حضورا وتفاعلا كبيرا ليس على المستوى العربي فقط بل على المستوى العالمي أيضًا.

معرض أبوظبي الدولي للكتاب، هو منبر ومنصة إقليمية ودولية رائدة، تمثل مظلة رئيسية تجمع سنوياً أقطاب صناعة النشر فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتوفر فرصاً واعدة للمنتمين إلى هذا القطاع، لعقد شراكاتٍ جديدة، والاطلاع على أحدث اتجاهات وتطورات هذه السوق الواعدة، ومناقشة أولوياتها الرئيسية، ويمثل المنصة الأبرز والأكثر استقطاباً للزوار الشغوفين بالكتاب واقتنائه، حيث يصل عدد زائريه سنوياً إلى أكثر من 150 ألف زائر، يستثمرون الصفقات المميزة، التي يتيحها أكثر من ألف عارض، من مختلف أنحاء العالم، يتنافسون على توفير خيارات تم انتخابها خصيصاً للمشاركة فى الحدث الدولي، الذي يسعى إلى تعزيز ثقافة القراءة، وتشجيع الإبداع فى شتى تجلياته، لا سيما المرتبط منه بالكتاب.
بعد غياب
بعد غياب دورتين متتاليتين لظروف الجائحة العالمية كورونا استأنف «أبوظبي الدولي للكتاب» نشاطه العارم بتنظيم دورة ضخمة وكبيرة استوعبت مشاركة دور النشر العربية والعالمية والإماراتية، بالتوازي مع برنامج الفعاليات والندوات والبرامج المهنية والثقافية والفنية، وقد حشدت إدارة المعرض (ممثلة فى مركز أبوظبي للكتاب برئاسة الدكتور علي بن تميم) عددا كبيرا من نخبة الفكر والثقافة والإبداع من كل الدنيا.
اختارت إدارة المعرض شخصية «طه حسين» شخصية ثقافية للمعرض هذا العام ونظمت محورا كاملا مخصصا له ولجوانب عطائه وإسهامه الفكري والتنويري والإصلاحي، تضمن برنامج الشخصية المحوري، الذي جاء بعنوان «طه حسين.. الكتاب بصيرة» أربع ندوات رئيسية، تغطي أبرز جوانب تجربة الدكتور طه حسين الفكرية والثقافية والأدبية يتناولها أعلام الفكر والأدب من مختلف أنحاء العالم العربي، منهم على سبيل المثال الشاعر والناقد السوري الكبير أدونيس، والباحث المصري بالجامعات الأوروبية والأمريكية حسام أحمد، مؤلف كتاب «طه حسين النهضوي الأخير»، وآخرين. وجاء عناوين الندوات الأربع كالتالي: «طه حسين: بصيرة العقل»، و«طه حسين ناقداً ومفكرًا»، و«طه حسين عميداً للأدب العربي»، و«طه حسين والتنوير».
بالإضافة إلى الندوات الأربع السابقة، خصصت إدارة معرض أبوظبي للكتاب ندوة خامسة، خاصة ونوعية لصاحب هذه السطور بعنوان «مدخل معاصر إلى طه حسين» احتفاء بكتاب «طه حسين تجديد ذكرى عميد الأدب العربي» الحائز على جائزة أحسن كتاب فى الدراسات الإنسانية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب فى دورته الأخيرة (يناير/ فبراير 2022).
وقد قدم الندوة وأدار الحوار الإعلامية والمذيعة القديرة منى سلمان، وأعقب الندوة حفل توقيع للكتاب لزوار ورواد المعرض.
واختتمت بهذه الندوة وهذا التوقيع، فعاليات اليوم الأخير، الذي شهد حضورا جماهيريا لافتا، واستجابة عالية من رواد المعرض، وبثت وقائع الندوة والتوقيع على الهواء مباشرة ضمن مواد البث المخصصة لفعاليات المعرض.
كما تضمن البرنامج أيضا مقالًا يوميًا فى النشرة اليومية للمعرض، وإقامة جناح الشخصية المحورية، والذي يشتمل على عرض لجوانب من شخصية طه حسين فى رحلة تلقي الضوء على أبرز محطات مسيرته وإنجازاته الثرية.
«طه حسين».. الكتاب بصيرة
اختار معرض أبوظبي الدولي للكتاب، عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الشخصية المحورية لدورته الحادية والثلاثين، وتضمن برنامج الشخصية المحورية، كما أسلفت الإشارة خمس ندوات، تغطي أبرز جوانب تجربة الدكتور طه حسين الفكرية والثقافية والأدبية، يتناولها أعلام الفكر والأدب من مختلف أنحاء العالم العربي.
وجاء هذا التخصيص تقديرا للقيمة والفكر المستنير، حيث كان الرجل، الذي فقد بصره فى سنوات حياته الأولى، صاحب بصيرة تجلى بنورها نتاج لطالما أُثريت به العقول، وانشغلت بأثره القلوب والأفهام، فى مختلف أنحاء الوطن العربي. وقد أطلق معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2022، برنامجاً جديداً يخصصه لشخصية محورية أثرت بشكل كبير فى مجالات الثقافة والفكر والمعرفة والإبداع وغيرها، وأثرت على حياة الناس بشكل ملموس؛ ليكون البرنامج بمثابة مساحة ثرية للإبحار فى عوالمها، والوقوف عند نتاجها تذوقاً وتحليلاً وقراءة ونقداً، حسب طبيعة ونوع ونطاق هذا النتاج.
لا يسهل تصنيف صاحب الشخصية المحورية الأولى لمعرض أبوظبي للكتاب، وهو المعروف بلقب عميد الأدب العربي، غير أن إسهاماته حققت تأثيرات مهمة ورئيسية فى مجالات الفكر والنقد والمعرفة، والصحافة وغيرها؛ ليكون الرجل، الذي فقد بصره فى سنوات حياته الأولى، صاحب بصيرة تجلى بنورها نتاج لطالما أُثريت به العقول، وانشغلت بأثره القلوب والأفهام، بعدما أصبح فى عصره والعصور التالية، شاغل النقاد والأدباء والمفكرين، ودليلاً على درب، سلكه تلامذته، ومن نهموا من ميراثه المتمثل فى مكتبة ثرية من المؤلفات والكتب القيمة لا تزال تبوح بأسرارها المئات من رسائل الدكتوراه والماجستير والدراسات المهمة، التي تقام حولها.
مفكرون عالميون.. وشهرة «سبيفاك»
استضافت الدورة الحادية والثلاثون من معرض أبوظبي الدولي للكتاب، شخصيات ثقافية وأكاديمية عربية وعالمية بارزة، وكلها معروف ومشهود لها بواسع التأثير فى مجرى الفكر العالمي ونشاط النقد المعرفى والثقافى.
وقد أسهمت الشخصيات المدعوة برفد المكتبة الإنسانية بالكثير من المعارف نظير إبداعهم، وجهودهم الملموسة فى حقول الأدب والفكر والترجمة والدراسات الثقافية.
من بين الضيوف، الذين شاركوا فى فعاليات هذه الدورة، الناقد والبروفيسور البريطاني روجر ألن، أستاذ اللغة العربية والأدب المقارن فى قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى فى جامعة بنسلفانيا الأمريكية، الذي قدّم العديد من المساهمات فى مجالات الترجمة، حيث تعرّف القارئ الغربي من خلاله على أعمال روائية لكبار الكتّاب، مثل نجيب محفوظ، وجبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف، ويوسف إدريس وآخرين.
كما استضاف المعرض أيضاً الناقدة والمنظرة الهندية الكبيرة البروفيسورة غاياتري شاكرافورتي سبيفاك؛ أستاذة العلوم الإنسانية فى جامعة كولومبيا. وهي عضو مؤسس فى معهد الأدب المقارن والمجتمع. سبيفاك شخصية عالمية رائدة فى قضايا المرأة واللغة والتنمية.
وفى ظني، فإن معرض أبوظبي قد شهد حدثا معرفيا وثقافيا استثنائيا وكبيرا باستضافة الناقدة والمنظرة الهندية الكبيرة جاياتري سبيفاك، التي ألقت محاضرة نوعية من محاضراتها المعرفية الرصينة ذات الحس الإنساني والتوجه العالمي نحو مقاومة الشوفينيات والأصوليات والنزعات المتطرفة. المحاضرة كانت بعنوان «المهمة الجديدة» فليست «سبيفاك»، التي يمكن أن تمر زيارتها إلى بلد من البلدان دونما اهتمام أبدا، إنها واحدةٌ من أهم وأكبر المنظرين والنقاد والمفكرين فى العالم، امتدت تأثيراتها فى الفكر والنظرية النقدية فى العالم كله، شرقاً وغرباً.
هذه السيدة التي أنتجت أفكارًا (ضمن مجموعة من الأسماء البارزة، منها الفلسطيني إدوارد سعيد، والباكستاني إعجاز أحمد، والهندي هومي بابا، فيما عرف بنقاد ما بعد الاستعمار، ثم دراسات النقد الثقافى) أحدثت ثورة حقيقية فى مجال النظرية النقدية، والنقد الثقافى، وأسست لما عرف بنظريات (التابع ينهض أو يتكلم) فى مجال الدراسات الثقافية. لا يوجد مشتغل بالنقد النظري والدراسات الثقافية لا يعلم من هي سبيفاك وقيمتها وأثرها فى العالم كله.
جوائز الشيخ زايد.. ميسون صقر الأبرز
وضمن فعاليات المعرض أيضا نظم الاحتفال الخاص بتسليم الجوائز للفائزين بجائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب فى أفرعها كافة.
وكان من ضمن الأبرز هو تكريم الشيخة ميسون صقر، الكاتبة والفنانة التشكيلية والشاعرة والمثقفة الكبيرة، عن كتابها المرجعي الزاخر «مقهى ريش عين على مصر»، الذي نالت عنه جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الأدب.
كان الاحتفاء بميسون صقر وفوزها وتتويجها بالجائزة كبيرا ورسميا وجماهيريا كانت الحفاوة والفرحة عارمة وصادقة وحقيقية، وكان الكتاب المحتفى به والمكرم والمتوج خير رسالة وخير عنوان على العلاقات الراسخة والقوية والمتينة بين الإمارات ومصر شعبا وحكومة رسميا وجماهيريا.
وأي رسالة أوضح وأنصع من حصول كتاب يقع فيما يزيد عن 550 صفحة يؤرخ ثقافيا وسياسيا واجتماعيا لمقهى ثقافى شهير تعاقبت عليه عهود وعصور وكان شاهدا على العصر، سجلت هذه الشهادة ووثقتها فى كتابها ميسون صقر، وهي إماراتية مصرية عربية جمعت فى تكوينها كل هذه المشتركات وعقدت فى إنتاجها ومحبتها نقطة النور والوصل بين الشعبين الشقيقين.
وقد انفردنا بإجراء حوار مطول ومفصل مع المبدعة والفنانة ميسون صقر تحدثنا فيه تفصيلا عن كواليس مغامرتها مع الكتاب وعن خبرتها وتجربتها الإبداعية عموما فيما يشبه الإطلالة البانورامية على مسيرتها الإبداعية الأصيلة، وسينشر الحوار كاملا على صفحات المجلة فى الأعداد القادمة بمشيئة الله.
برامج المعرض.. البرنامج الثقافي
تميز محتوى برامج معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2022 بالتنوع الواضح، بحيث يناسب أصحاب الاهتمامات المتباينة، والمنتمين إلى مختلف الشرائح العمرية، وهو ما يعكسه بشكل واضح البرنامج الثقافى الثري، الذي يمتد على مدار فترة إقامة المعرض، ليجد الزائر أن هناك دائماً فعاليات قادرة على إثارة شغفه، تشكل فرصة يجب اغتنام حضورها.
تؤكد الفعاليات المختارة مفهوماً تعكسه مختلف فعاليات الدورة الحادية والثلاثين لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، وهو: «الكتاب: بصيرة» باعتباره الوسيط، الذي يحمل المعارف والعلوم والأفكار والآداب والفلسفات، ويضىء الدرب لاستكشاف الحقيقة، وإبصار الآفاق، والمحفز الأنجع والأكثر كفاءة باتجاه الإلهام والإبداع وإثراء التجارب والخبرات.
فيما يعد البرنامج الثقافى أكبر برامج معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2022، وهو أكثر البرامج، التي تعكس مفهوم «الكتاب: بصيرة»، وما ينضوي تحته من ممارسات تعتمد ثلاثية قوامها «إلهام.. إبداع.. إثراء».
وقد ضم البرنامج الثقافى العديد من الفعاليات موزعة على مختلف أيام المعرض، شارك بها نخبة من المتحدثين، والمتحدثين الرئيسيين فى مختلف مجالات الثقافة والفنون والآداب والفكر وقطاعات أخرى مؤثرة فى الشأن الثقافى، بما فى ذلك الأمسيات الشعرية، والمناظرات الفكرية والنقدية، والقراءات القصصية والنقاشات النقدية والتحليلية، والجلسات الأدبية، والندوات، التي تتطرق إلى أبرز القضايا والظواهر والمستجدات على الساحة الثقافية والإبداعية عموماً، وغيرها من الأنشطة والفعاليات المهمة.
كما ضم البرنامج الثقافى قائمة كبيرة من المتحدثين الرئيسيين، وكبار الشخصيات والأدباء والمفكرين العالميين.
ويمثل محور «المناظرات»، ملمحاً رئيسياً من ملامح التجديد الشامل للدورة الحالية، وواحداً من البرامج، التي تتيح مزيداً من المكاشفة بين أصحاب الآراء شديدة التباين، حيث تم استلهام فكرة هذا البرنامج من معين أحد الفنون الأصيلة فى الأدب العربي «فن المناظرة»، التي ازدهرت فى العصر العباسي تحديداً، مع الاحتفاظ بالأدوات الأحدث لإدارة الحوار، ما يضمن توفير محتوى يثير شغف الحضور ويجيب على تساؤلاتهم ويسهم فى تعزيز قدراتهم على الوصول إلى رؤية شاملة حول القضايا، التي تثيرها كل مناظرة. وزخر هذا البرنامج بثلاث مناظرات ملهمة، أدارها جميعاً الإعلامي السعودي د.سليمان الهتلان.
«لا صوت يعلو فوق صوت الشعر»، هو الشعار الذي ترفعه الأمسيات شعرية، التي شارك بها نخبة من أبرز الشعراء، ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2022.
كما تضمن البرنامج الثقافى ضمن محور مخصص للأدب العربي والعالمي، مجموعة مهمة من الندوات تتطرق إلى العديد من القضايا والظواهر الإبداعية والفنية والنقدية، فى الأدب العربي والعالمي، مستعرضة كذلك عدداً من الأعمال الأدبية المتميزة، وهي الندوات التي ستشهد مشاركة نخبة من الأدباء، والأكاديميين والمتخصصين، والمترجمين البارزين.