فى عام 1973 صدر كتاب المتلاعبون بالعقول(Mind Managers) للكاتب الأمريكى هربرت شيللر «Herbert Schiller» يكشف صناعة المعرفة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وكيفية السيطرة على العقول والتأثير فى الرأى العام، وأرجع الكاتب ما يحدث فى الدول التى تستهدفها الولاياتالمتحدة من خلال وسائل الإعلام إلى خمسة أساطير، بوصفها حقائق. ثم جاءت الكاتبة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز «France Stonor Saunders» لتكشف كيف استطاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية استخدام ملف الثقافة والإعلام فى فرض سيطرتها واحتلالها للعقول، وكيف عملت المخابرات الأمريكية على اختراق أوساط المثقفين والإعلاميين من خلال منظمات واتحادات ثقافية ونوادٍ إعلامية وصحف ومجلات وجوائز. لم يكن الأمر هنا مجرد تحرك يستهدف مواجهة الاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت فحسب، بل أيضًا لدعم حلفائها فى المنطقة خاصة وأن الولايات المتحدث نشرت مكاتبها فى عدد من الدول الغربية والعربية منها مصر ولبنان والأردن والسعودية وليبيا والمغرب وأصبحت منظمة الحرية الثقافية (Congress for Cultural Freedom) الذراع القوية لهذا المشروع. وبحسب الكاتبة ف. ر. سوندرز، لم يكن ذلك المشهد ببعيد على الجماعة الإرهابية، فقد اقتبست النموذج وبرعت فى تطبيقه لترويج أفكارها المسمومة فى المنطقة، بدءًا من عملية صناعة وتعليب الفكر المتطرف وانتهاءً بتنظيم الحملات الإلكترونية من خلال كتائب تعمل على مدار الساعة مستخدمة للسوشيال ميديا والثقافة من أجل تزييف الوعى لدى الجمهور والسيطرة على الرأى العام. فإذا كانت واشنطن قد استخدمت خمس أساطير قدمتها للرأى العام العالمى من أجل تزييف الرأى العام وتعليب العقول، فقد استغل تنظيم الإخوان الإرهابى مجموعة من نقاط الضعف فى المجتمعات، كما قام بتسويق بعض الأحداث المجتمعية السلبية وترويجها على أنها ظواهر عامة ليكون الحل هو النموذج الذى تقدمه الجماعة الإرهابية؛ الأمر أشبه بدس السم فى العسل، ليصبح المجتمع حائرًا بين الصورة الذهنية التى تقدَّم فى بعض الوسائل الإعلامية والسوشيال ميديا عن حالته المتردية من تفكك اجتماعي، ومصطلحات سقطت بعض الوسائل الإعلامية وبعض قادة الفكر فى ترديدها. هنا تبرز رأس الشيطان لتطل علينا من كتائب ضخمة مخاطبة فينا العقل والروح، وتصبح المقارنة بين صورة مجتمع منحل ومجتمع متمسك بالقيم والخلق، ويرجع ذلك إلى تمسكه بالتعاليم الدينية. سحبت كتائب التنظيم الإرهابى وقائع لأحداث فردية شذَّت عن المجتمع وقامت بتسويقها على السوشيال والتفاعل معها ثم انطلقت بعد ذلك لتقدم ما يعرف بالنموذج المخلص، وهكذا تكون قد دفعت بالرأى العام فى الاتجاه المستهدف (تعليب العقول). ولأن التنظيم الإرهابى قد تلقى ضربات قوية أفقدته توازنه على مدى السنوات العشر الماضية بعد أن كشف وظهر وجهه القبيح أمام المجتمع، أدرك قادة التنظيم على المستوى المحلى والدولي، والمؤسسات الاستخباراتية التى تقف خلفه، أن المواجهة المسلحة مع الدولة المصرية لن يكون مصيرها سوى الفشل وسيظل النصر حليفًا للدولة فى ظل قوتها وقدرتها على المواجهة والملاحقة الأمنية والعسكرية، ونجاح الضربات الاستباقية وكذلك نجاحها فى خطة التنمية والمواجهة الفكرية من خلال تحرك مؤسسات الدولة باتجاه تجديد الخطاب الدينى من أجل مواجهة الفكر الإرهابى بالفكر. هنا كان البحث من جانب التنظيم الإرهابى وعناصره المبعثرة فى قطاعات مختلفة ومنها الثقافة والإعلام للعمل على الإعداد لمواجهة الدولة المصرية فى هذا المضمار، فى إطار خطة محكمة تستهدف تزييف الوعى والتلاعب بالعقول، بعد أن وضع خطة استهدف بها تقديم نماذج جديدة والدفع بوجوه غير معروفة، والتسويق لها، لتصبح بديلًا لسيد قطب وغيره من رموز الجماعة القدامى. لكن الرموز والشخصيات الجدد جاءت فى ستايل أكثر قدرة على الانغماس وسط الشباب والتفاعل معهم، بل إن الأمر لا يمنع أن ترتكب تلك الرموز الموبقات والعياذ بالله لتظهر وكأنها بعيدة تمامًا عن فكر التنظيم الإرهابي، وهى فى الحقيقة أحد عناصره وكوادره وفق النموذج الجديد من كوادر الجماعة؛ فاخترقت الجماعة عالم النشر الثقافى، وارتفع عدد دور النشر التابعة لها فى مصر إلى ما يزيد على 800 دار نشر تنفث من خلالها سمومها، بل واستطاعت أن تسيطر على عدد آخر من دور النشر من خلال إغداق الأموال عليها لتظل الجماعة تديرها من خلف الستار. ولأن الأمر جد خطير، دعونا نتوقف فى هذا العدد على جزء من ذلك المخطط الذى يديره تنظيم الإخوان الإرهابى للوصول للهدف المنشود، مستهدفًا تزييف الوعى لدى المجتمع وتغيير الصورة الذهنية عن التنظيم الإرهابى خلال السنوات القادمة، معركة تديرها الجماعة الإرهابية لتعليب العقول. ودعونى أتوقف أولًا عند بعض دور النشر ودورها فى نشر كتب فكر الجماعة الإرهابية فى مصر والوطن العربي، وهنا أتوقف عند بعض دور النشر التى تكتظ بعناوين وكتب عناصر الجماعة الإرهابية الجدد، ومعلبى فكر سيد قطب وحسن البنا والقرضاوى وطارق سويدان وغيرهم. ففى الوقت الذى تواجه الدولة فكر الجماعة الإرهابية نجد أنه ما زال يتم طباعة وتوزيع «كتاب فى ظلال القرآن» لسيد قطب، وهو المنهج الذى اتخذته الجماعات التكفيرية فاستحلت به الدماء واستهدفت تدمير الأوطان، وعند بحثنا فى ذلك الملف الذى هالنى حجم ما به من كارثة ثقافية تكشف خطة «الإخوان» للسيطرة على عقول الشباب من خلال روايات ومجموعة من الكتب التى تقدم فكرًا إرهابيًا بين سطورها، توقفت عند إحدى دور النشر التى بدأت كإحدى الصفحات على السوشيال ميديا عام 2016 وفتحت عددًا من المكتبات فى عدد من المحافظات المصرية، وأنشأت منصة لبيع الكتب ليأتى تأسيس الشركة «عصير الكتب للترجمة والنشر والتوزيع» بتاريخ 26 أكتوبر 2020 وفق عقد التأسيس رقم 20 -40254- 05 -1- 01 فى الوقت الذى أصدرت فيه الدار عددًا من الكتب لعناصر جماعة الإخوان. كان من بين الكتب التى أصدرتها الدار قبل تأسيسها ومازالت تصدرها حتى الآن، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب «رسائل سقطت من ساعى البريد» ليوسف الدموكي، والذى طُبع فى يناير 2020 وحصلت للكتاب على رقم إيداع 28800 / 2019، أى أنه تم طباعته قبل تأسيس الشركة بعشرة أشهر، وحصلت «عصير الكتب» على رقم الإيداع قبل تأسيسها بعام، الأمر الذى فتح الباب لنكتشف أن «عصير الكتب» ليست وحدها التى تقوم بشراء أرقام إيداع وتقوم بطباعة الكتب قبل التأسيس. الأمر الأدهى أن هذا العدد من كتب الإخوان أو عناصرها الجدد الذين يقدمون فكرًا يستهدف إعادة إحياء التنظيم والوصول إلى عقول الشباب من خلال مجموعة من الروايات مثل «حديث الجنود» لأيمن العتوم و«البوصلة القرآنية» لأحمد خيرى العمريّ والذى يُعد بمثابة إعادة إحياء لكتاب «معالم على الطريق» لسيد قطب، و«رسائل من القرآن» لأدهم شرقاوي، والتى تشبه «جيل النصر المنشود» للقرضاوى ورسائل البنا. إنه منهج يستهدف تقديم صورة ذهنية لدى الشباب – تتلخص فى أن غياب الإخوان يعنى غياب الدين ويصنع مجتمعًا جاهليًا- .. ليصبح الاختيار الإجبارى للمجتمع هو الجماعة الإرهابية، هذا الفكر المسموم ما زالت تحويه كتُب تحمله بين طياتها، وتوَزَّع تلك الكتب فى المكتبات وتصل إلى المعارض بل إن بعضها كان ضمن مبادرة «ثقافتك كتابك» التى دشنتها وزارة الثقافة خلال معرض الكتاب 2021 وقُدِّم عليها خصم بلغ 50% لضمان مزيد من الانتشار، الأمر الذى جعل بعض تلك الإصدارات لأحمد خيرى العمريّ تصل عدد طبعاتها إلى 40 طبعة. إننا أمام استراتيجية تسير بخطوات محددة نحو إعادة إنتاج فكر الإرهابية من جانب وتشكيل رموز ثقافية جديدة له من جانب آخر لتقديم فكر قد يظنه البعض مختلفًا عن السابق، ولكنه فى الحقيقة هو إعادة تدوير لفكر البنا وقطب والقرضاوى وغيرهم. لقد فتح غياب وجود مشروع ثقافى حقيقى واستراتيجية ثقافية متكاملة الباب على مصراعيه للعديد من دور النشر لإعادة إنتاج فكر الجماعة الإرهابية وتسويقه وتقديمه من جديد، ولدينا كشف طويل يحوى العديد من أسماء تلك الدور، وكذلك العديد من مؤلفات كوادر الإخوان الهاربين فى الخارج، والذين يبثون أفكارهم فى الداخل من خلال دور النشر التى تقوم بطباعة مؤلفاتهم وتوزيعها فى المعارض المختلفة داخل مصر وخارجها. إننا أمام قضية غاية فى الخطورة تستهدف تقديم فكر مسموم، فقد استطاعت الجماعة الإرهابية عقد لقاءات لكوادرها خارج مصر خلال معارض الكتب الخارجية، بل وأصبحت تلك المعارض بمثابة نقطة التقاء بين كوادر الجماعة فى الداخل والخارج لتنسيق خطط التحرك لاستهداف الدولة المصرية؛ ولم يكن ذلك فحسب بل أصبحت دور النشر التابعة للتنظيم الإرهابى بمشاركتها فى المعارض الخارجية تستطيع إدخال أموال من التنظيم الدولى للجماعة داخل مصر بدعوى أنها حصيلة بيع الكتب. لقد غابت وزارة الثقافة عن هذا المشهد تمامًا تاركة المجال للجماعة الإرهابية تعبث فيه وتهدد الأمن القومى للوطن، لتشن أكبر عملية غزو فكرى للشباب والأطفال. ما زالت بالقضية تفاصيل كثيرة نستعرضها فى العدد القادم، ونقدم نماذج لعدد من الروايات وقصص الأطفال التى نُشرت وقد غيرت حدود الدولة المصرية، بل إن إحدى دور النشر المذكورة حصلت على أربعة أجنحة فى معرض الكتاب بإحدى صالات العرض لتنفرد تلك الدار ببيع كتب الأطفال فى تلك الصالة. كما نستعرض فى العدد القادم كيف تدخل أموال الإخوان لتمويل التنظيم خلال الفترة الأخيرة.