قد يتصور البعض أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى حديثة لا يتجاوز عمرها سنوات قليلة، لكن الحقيقة أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى لم تتوقف خلال عصور التاريخ الإسلامى وإن اتخذت مسميات مختلفة، كالإحياء والإصلاح واليقظة والتطوير. وقد فرضت مخاطر المرحلة تحديات كبيرة على الأزهر، وهناك ضرورة لأهمية التجديد، وهى مسئولية تقع على الأزهر وعلمائه، فمنذ أكثر من ألف عام والأزهر الشريف منارة العلم، وقبلة طالبيه من شتى بقاع الأرض، وهو منبر المعرفة والوسطية المعتدلة التى لا تعرف الغلو ولا تتلون بألوان الأطياف والسياسة. وقد جاء مؤتمر الأزهر العالمى لتجديد الفكر الإسلامى فى وقته ومكانه لما نحتاج إليه من محاربة للتطرف والإرهاب بكل أنواعه. انطلق المؤتمر الاثنين الماضى بحضور علماء 41 دولة عربية وإسلامية، وطالب الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال كلمته المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف بأن تولى أهمية لتجديد الخطاب الدينى للحفاظ على الشباب وسد الفراغات التى يتسلل منها أدعياء العلم للسيطرة على عقولهم. وأكد الرئيس أن التجديد الذى نتطلع إليه ليس فى ثوابت الدين ولا العقيدة ولا الأحكام التى اتفق عليها الأئمة، وأن ما ننتظره هو التجديد فى فقه المعاملات فى مجالات الحياة العملية، وقال إنه رحمة الله بنا أن شرع لنا أحكامًا ثابتة، وأحكامًا تتغير وفقًا للتطور، وأن الفتوى تتغير من بلد لبلد، ومن عصر لعصر، ومن شخص لشخص. وأكد الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر، أن قانون التجدد أو التجديد هو قانون قرآنى خالص، توقف عنده طويلًا كبار أئمة التراث الإسلامى خاصة فى تراثنا المعقول، واكتشفوا ضرورته لتطور السياسة والاجتماع، مضيفًا أن الأزهر الشريف قرر إنشاء مركز دائم باسم «مركز الأزهر للتراث والتجديد» يضم علماء المسلمين من داخل مصر وخارجها للإسهام فى عملية التجديد الدينى. وقال الإمام الأكبر إن النصوص الشرعية لا تجديد فيها، أما النصوص الظنية فهى التى يتم التجديد بها، وأن التجديد صناعة دقيقة لا يجيدها إلا العالم وعلى غير المختصبن عدم الخوض فى هذا الأمر حتى لا يتحول التجديد إلى تبديد. ويعنى مصطلح تجديد الخطاب الدينى مخاطبة الجمهور بلغة العصر، فالتجديد فى اللغة والأسلوب، وتجديد فى الفتوى، لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان وبما يناسب العصر.. فالأحكام لا تتغير، إنما الفتوى أو طريقة تطبيق الأحكام هو ما يتغير. والهدف من تجديد الخطاب الدينى التأكيد على صلاحية الشريعة الإسلامية وتميزها بالثبات والمرونة وإصلاحها لأحوال الناس فى كل زمان ومكان، وقبولها لمختلف الآراء الاجتهادية التى تستند إلى الأدلة الشرعية. وتجديد الخطاب الدينى يعنى تجريده مما علق به من أوهام أو خرافات أو فهم غير صحيح ينافى مقاصد الإسلام وسماحته وإنسانيته وعقلانيته، بما يلائم حياة الناس ويحقق المصلحة الوطنية ولا يمس الأصول العقائدية أو الشرعية أو القيم الأخلاقية الراسخة. وهو أيضًا إعادة صناعة وعى دينى ووطنى وإنسانى جذاب ومنير، ومدرك للواقع بكل تعقيده وملابساته، وقادر على الخوض فيه ومواجهته بنجاح، بحيث يحاصر فكر التطرف والتكفير ويفنده ويفككه، ويحرز فى هذا نجاحًا يلمسه الناس، ويعيد بناء الإنسان المصرى الجاد المبدع الرائد، ويعيد تشغيل مصانع الحضارة فى الفكر المسلم، حتى يرجع لقراءة القرآن فيستخرج منه الحضارة والتمدن والحياة والإحياء. qqq إن الخطاب ليس خطابًا دينيًا بالمعنى الضيق، ولكنه خطاب شامل يبدأ من الدين ويتجه إلى المجتمع والسياسة والاقتصاد، وهناك ضرورة لمعرفة وضع الخطاب الدينى من عملية التجديد الحضارى الشامل لمصر، فإذا كانت مصر تمر بأزمة حضارية، فلماذا يوضع الخطاب الدينى على قائمة الأولويات، وكأن الأزمة مبعثها الخطاب الدينى فقط وليس مبعثها أزمات أخرى كالتعليم والصحة والثقافة والإعلام وغيرها. ويتصدر الخطاب الدينى الأزمة لأن الشخصية المصرية يؤثر فيها الدين بعمق، وهو عامل مهم وحيوى فى تكوين اتجاهات المصريين ووجهات نظرهم تجاه الحياة، وفى تشكيل منظومة القيم الخاصة بهم، وتأثيره ممتد إلى أغلب سلوكيات المصريين، فتجديد الخطاب الدينى ضرورة ليكون الدين من أجل تعليم الإنسان الأخلاق والقيم وحسن المعاملة والضمير والأمانة واحترام الغير والتعايش الحسن معه، وله أيضًا دور كبير فى تحويل الأخلاق من مجرد كلمات إلى قيم وسلوك وحضارة. qqq وقد أعلن فضيلة الإمام الأكبر البيان الختامى للمؤتمر، وتناول الموقف الشرعى الحاسم لعدد من القضايا الجدلية التى عادة ما يتم الربط بينها وبين قضية تجديد الخطاب الدينى. وجاء فى البيان أن التجديد لازم من لوزام الشريعة الإسلامية لا ينفك عنها لمواكبة مستجدات العصور وتحقيق مصالح الناس، وأكد د. الطيب أن النصوص القطعية فى ثبوتها ودلالتها لا تجديد فيها بحال من الأحوال، أما النصوص الظنية الدلالة فهى محل الاجتهاد، وتتغير الفتوى فيها بتغير الزمان والمكان وأعراف الناس، شريطة أن يأتى التجديد فيها على ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها العامة ومصالح الناس. وفى الختام نتمنى ألا ينتهى مؤتمر تجديد الفكر الإسلامى بتوصيات فقط كعادة معظم المؤتمرات، إنما بجدول أعمال للقضايا التى تم طرحها ووضعها على طريق الحل، فهذه مسئولية الأزهر قبلة الإسلام والمسلمين. qqq إن مواقف الأزهر ودوره لا يقبلان المزايدة، فالأزهر الشريف من أسبق المؤسسات عملًا لوحدة الصف ولم الشمل، وعلى المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية التعاون مع الأزهر فى إطار خطاب هادف يناسب العصر، ويدعم جهود المؤسسات العسكرية والأمنية فى توفير الأمن وبسط السلام، فالعالم الإسلامى يمر بمرحلة من أخطر مراحله التاريخية وعلى شعوب وحكومات المنطقة إدراك أننا إما نكون أو لا نكون.