«كل إنسان على وجه الأرض يستطيع أن يكون قصة وملحمة إنسانية» محمد أنور السادات وبالفعل كان الفتى الأسمر يمتلك الحلم والقدرة على تحقيقه ورغم مرور مائة عام على مولده ستظل الحقيقة الوحيدة الباقية أن أنور السادات من أكثر الشخصيات مدعاةً للإعجاب والدهشة والحيرة والجدل.. كما أن ذكاءه الخارق كان وسيظل محل تقدير الجميع، وكان كاريزما استثنائية أذهلت كل مؤيديه ومعارضيه على السواء، فالزعيم أفنى حياته من أجل مصر، وكان أحد المشاركين فى صناعة أهم حدثين فى تاريخ مصر الحديث، ثورة يوليو 52 وحرب أكتوبر 73. ولم يكن السادات عضوًا تقليديًا فى مجلس قيادة الثورة، فرغم ابتعاده عن العمل التنفيذى معظم سنوات حُكم جمال عبد الناصر، فإنه كان يراقب ويعى ويستوعب كل ما يجرى بُحكم تجاربه الحياتية والسياسية.. وبُحكم أنه تعرض للاعتقال والسجن مرات وسنوات عديدة، ولذلك كان عبد الناصر يطلق عليه اسم «الثعلب» وكان فعلاً ثعلب مجلس قيادة الثورة. إن اختلاف السادات تاريخًا ومضمونًا عن بقية الضباط الأحرار، هو حقيقة تاريخية وموثقة، فقط السادات كان مناضلاً دائمًا، مدنيًا وسط الجماهير، عرف السجون والمعتقلات فى كفاحه ضد الوجود العسكرى البريطانى فى مصر، وناضل فقيرًا، وهو مالم يعرفه بقية الضباط الأحرار، وقام عبد الناصر بتعيين السادات نائبًا لرئيس الجمهورية فى ديسمبر 69 وسط دهشة الجميع، وفى 28 سبتمبر 1970 رحل جمال عبد الناصر، وأصبح السادات رئيسًا لمصر. وكان الرصيد السياسى والحياتى لدى السادات قد منحه القدرة والقوة على ضرب كل مراكز القوى بعد رحيل عبدالناصر، رغم أن أعداءه كانوا يتحكمون فى كل مفاتيح الحُكم والسلطة، فكان منهم قائد الجيش ورئيس البرلمان ووزير الداخلية ووزير الإعلام، ولكنه نجح فى الإطاحة بهم جميعًا، فأى عبقرية كانت لدى السادات؟! كانت أولى خطوات السادات بعد توليه الرئاسة هو استعادة اسم مصر الذى اختفى تحت مسمى «الجمهورية العربية المتحدة» فأعاد اسم «مصر» أعرق وأقدم أمة فى التاريخ، ورفع خوف الدولة البوليسية عن المصرى البسيط، فزحف عشرات الآلاف من أحفاد رمسيس وأحمس يعبرون القناة ويقهرون المستحيل لاستعادة كل حبة رمل مصرية، فكان النصر على أرض سيناء بعودة الروح وعودة الوعى إلى الأمة المصرية، وكانت حرب أكتوبر المجيدة أعظم إنجاز أكد عظمة السادات وفراسته وتعدد قدراته، وفى مقدمتها قدرته على خداع العدو، وتحقيق المفاجأة التكتيكية والاستراتيجية وتحقيق النصر. إن الانتصار التاريخى الذى تحقق لم يكن ليحدث لولا عبقرية السادات الذى قام بأكبر عملية خداع استراتيجى فى الشرق الأوسط، فلم تتوقع أكبر أجهزة المخابرات فى العالم قراره بالحرب فى ذلك الوقت، بل إنها اعتبرت أن دخوله الحرب «حماقة كبرى» و«انتحار سياسى» بكل المقاييس، وتجلت عبقرية السادات فى عدة قرارات أبرزها قيامه بمناورتين للجيش، وإعلان التعبئة العامة قبل الموعد المحدد للحرب، مما كلّف إسرائيل أموالاً طائلة، وعندما بدأت المناورة الثالثة تجاهلتها إسرائيل فكانت الحرب. وفى وثيقة رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية ديفيد إلعازر والتى تتضمن تفاصيل التحقيق معه من جانب لجنة التحقيق فى أسباب الهزيمة برئاسة قاضى المحكمة العليا شمعون أجرانات، ورد بها ما يبرهن على النجاح الكامل الذى حققته خطة الخداع الاستراتيجية المصرية فى إنهاء حالة اليقظة المخابراتية والعسكرية فى عقل القادة السياسيين والعسكريين مما أدى إلى نجاح الهجوم المصرى. وثيقة رئيس الأركان، ووثيقة رئيس المخابرات العسكرية إيلى زاعيرا تقدمان براهين قاطعة على أن القائد الذى يستحق لقب ثعلب حرب المخابرات على مستوى العالم هو الرئيس أنور السادات، وتظهر خطورة ما فعله السادات عندما يبين رئيس الأركان للجنة التحقيق أن تقديره لاحتمال وقوع هجوم مصرى وسورى فى شهر سبتمبر 73، وخلال الأيام الخمسة الأولى من أكتوبر قد تغير عما بدأ به عام 1972، لقد تحول تقدير رئيس الأركان إلى اعتبار الهجوم احتمالاً ضعيفًا رغم كل الحشود السورية التى بدأت تتجمع اعتبارًا من منتصف مارس، والحشود المصرية التى بدأت تتجمع مع نهاية مارس، نفس التقدير سيطر على عقل زاعيرا رئيس المخابرات العسكرية، وظلت فكرة عجز المصريين عن شن الهجوم مسيطرة على الجميع حتى فجر السادس من أكتوبر. وبالفعل كان السادات صاحب نظرة مستقبلية عميقة، فقد نجح فى استرداد أرضه وجنب مصر ويلات الحروب، وما حققته مصر من خلال السلام يعد إنجازًا كبيرًا من حيث مضمونه الذى أعاد سيناء كاملة لمصر، ومن حيث استمراره واستمرار طرفيه فى الالتزام بما وقعا عليه. إن رؤية السادات المستقبلية سبقت عصره بكثير، فنجح فى تصحيح كثير من الخطوط العريضة لثورة يوليو، عندما أخرج مصر من دائرة الاستقطاب السوفيتية، وإعادة الرأسمالية الوطنية لتسهم فى التنمية بدلاً من الاقتصار على القطاع العام فقط، وكان صاحب بصيرة ثاقبة يرسم استراتيجيات بعيدة المدى، متوقعًا القادم الذى عجز عن رؤيته قصار النظر، لدرجة أنه تحدث عن زوال الاتحاد السوفيتى قبل تفككه ب 17 عامًا. لقد قرأ السادات التاريخ واستشرف المستقبل، هذا البطل الذى خرج من بين أبناء الشعب، فى فترة ساد فيها الظلام، حمل مشعل النور ليضىء الطريق، حتى يستطيع الشعب أن يعبر الجسر ما بين اليأس والأمل. السادات هذا المصرى الأصيل الذى وهب حياته كلها لمصر، يقولون إنه تعرض للاغتيال بسبب السلام مع إسرائيل، أو بسبب خروجه عن وحدة الصف العربى، إلا أن اغتياله كان يستهدف حرمان مصر من قائد وزعيم صاحب رؤية مستقبلية كمحاولة لإبقاء مصر فى أسر الشمولية والجمود والتخلف. إن مصر لا تنسى أبدًا رجالها وأبطالها، ففى ذكرى مئوية مولده، نشكر الزعيم الراحل العظيم على ما بذله من جهد أدى إلى عودة الكرامة والعزة والأرض، وبذل روحه فداء للوطن.