لم تستطع التصريحات المتتالية منذ بداية العام الجارى لأعضاء شعبة الصرافة بالغرف التجارية، تبييض وجه شركات الصرافة التى أسهمت بشكل كبير فى تعميق جراح الجنيه المصرى، والوصول بسعر الدولار فى «السوق السوداء» إلى نحو 8.60 جنيه مقابل 7.73 جنيه فى تعاملات البنوك، كما لم تفلح الضربات الرقابية والأمنية على شركات الصرافة فى الحد من هذا النزيف المستمر لقيمة العملة المحلية.ويترقب محللون ماليون واقتصاديون طفرة جديدة فى أسعار الدولار بالسوق السوداء طالما ظلت الفجوة بين الصادرات والواردات فى الميزان التجارى كبيرة، حيث تبلغ 38 مليار دولار، فمصر تستورد بما قيمته 60 مليار دولار، وتصدر بنحو 22 مليار دولار فقط. محرر «أكتوبر» تجول على مدار يومى «الإثنين والثلاثاء» من الأسبوع الماضى فى عدد من شركات الصرافة، عارضا بيع مبلغ من الدولار على شركات الصرافة، فكانت المفاجأة أن هناك اتفاقًا شبه كامل بين أصحاب شركات الصرافة سواء فى وسط القاهرة، وتحديدا شارع عبد الخالق ثروت، أو فى الجيزة وتحديدا فى شارعى أحمد عرابى بالمهندسين أو الهرم، على أمرين: الأول: شراء «الورقة الخضراء» فئة ال100 دولار بسعر أعلى من نظيرتها فئة ال20، وهو ما يعكس النية المبيتة لتسهيل تهريب العملة الصعبة إلى الخارج. الثانى: هو أن فارق السعر فى كل شركات الصرافة التى تجولنا بها، لا يتجاوز 5 قروش صعودا وهبوطا حسب المنطقة وتوقيت البيع، وكمية الدولارات التى بحوزة البائع. أما الملاحظة المهمة التى رصدناها فهى أن جميع عمليات البيع تتم بدون إصدار قسيمة تحويل عملة «فاتورة» أو التأكد من هوية البائع أو حتى طالب الشراء، وفى حال طلب هذه الفاتورة يكون البيع بالسعر الرسمى المعلن من البنوك، والمدون على لوحة ضوئية تتصدر واجهات شركات الصرافة من الداخل. البيع أيضا يتم فى هذه المحال، دون قلق أو خوف من أن يكون البائع أحد أفراد الرقابة أوالتفتيش، وكأن هناك اتفاقًا غير معلن على تسهيل عمليات البيع والشراء داخل هذه المحال، ومعرفة تامة بأوقات الحملات الرقابية والأمنية، وهو مايشير إلى إمكانية تورط البعض من المسئولين، المفترض بهم ضبط إيقاع هذه الشركات، والتأكد من جدية التزامها بالقانون. العملات التى تدخل لهذه المحال أوالشركات دون «فاتورة» لا يتم تدوينها بالسجلات الرسمية، وبالتالى تظل خارج الرقابة ولا يكون هناك إلزام بتوريدها للبنوك، وتخرج أيضا دون فواتير، وهو ما يستدعى كذلك حملات تفتيش ورقابة نوعية مختلفة عن المداهمات التقليدية والتفتيش على ما بالخزانة من أموال ومطابقتها بما هو مدون بالدفاتر والسجلات. موازين خارجية وفى دراسة له -اطلعت أكتوبر على نسخة منها- قال الخبير الاقتصادى أحمد السيد النجار: إن سعر صرف أية عملة تجاه العملات الأجنبية يتأثر بالعديد من العوامل الأساسية، ومنها حالة الموازين الخارجية للدولة التى تأتى على رأس تلك العوامل إذ إنها تحدد مدى وفرة النقد الأجنبى أو نقصه وتعطش السوق له. واعتبر أن سعر الفائدة الحقيقى على الودائع بالعملة المحلية بالمقارنة مع أسعار الفائدة الحقيقية على العملات الأخرى عاملا مهما فى تحديد وضع أى عملة تجاه تلك العملات الحرة الرئيسية، كما أن المؤشرات الرئيسية المعبرة عن أداء أى اقتصاد مثل معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى ومعدل التضخم ومعدل البطالة تؤثر فى حركة سعر صرف العملة المحلية تجاه العملات الحرة الرئيسية. وأردف النجار: حجم الاقتصاد الأسود المرتبط بالاستيراد من الخارج مثل تجارة المخدرات والسلاح يشكل عاملا مهما فى التأثير على حركة سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية. وفى حالة وجود عمليات مضاربة على العملات الأجنبية سواء لتمويل الأنشطة الاقتصادية المشروعة أوغير المشروعة أو للاكتناز بغرض تعطيش السوق، فإنها تؤثر على حركة سعر الصرف، وهذه العمليات بالذات يكون تأثيرها أكبر من حجمها الحقيقى لأنها تخلق حالة من التوقعات باستمرار ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية مما يترتب عليه حالة من الاكتناز وتأجيل بعض الحائزين لبيع العملات الأجنبية انتظارا لأسعار أعلى مما يترتب عليه ما يسمى تعطيش السوق، وهذا التعطيش يسهم فى تدهور سعر صرف العملة المحلية بصورة تخلو من المنطق. خطيئة كبرى ومن جانبه قال الخبير الاقتصادى محمد نبيل الشيمى وكيل وزارة التجارة الخارجية الأسبق ومدير غرفة صناعة الجلود باتحاد الصناعات: ارتكب البنك المركزى المصرى خطيئة كبرى عندما أعلن المحافظ المستقيل هشام رامز تخفيض قيمة الجنيه مقابل الدولار الأمريكى 20 قرشا فى أقل من أسبوع، وبالتالى يكون الجنيه قد فقد 20% من قيمته خلال عام، مما زاد من الضغوط على العملة المحلية وأنعش الطلب على العملة الأجنبية، وبالتالى انتعشت السوق السوداء التى يلجأ لها الكثير من المستثمرين من أجل تدبير احتياجاتهم من الدولار، فى ظل القيود المفروضة من البنك المصرى. وتابع: من بين التأثيرات السلبية لارتفاع سعر صرف الدولار، زيادة أسعار السلع بالسوق المحلى، بالإضافة إلى ارتفاع فى معدل التضخم، وبالتالى فإن التصدى لذلك لن يتحقق إلا عن طريق زيادة معدل الإنتاج المحلى عن طريق تشغيل المصانع بكامل طاقتها مما سيؤدى إلى زيادة المعروض بالسوق وبالتالى انخفاض الأسعار، وهو ما لن يتحقق على المدى القريب، نظرا لغياب الكثير من المقومات التى تساعد على ذلك. وأوضح أن شركات الصرافة بمفردها لا يمكن أن تكون المسئول الوحيد عن انتعاش السوق السوداء، ولابد من سياسات فاعلة من البنك المركزى، وكذلك توعية للمواطنين بأن ما يتحصلون عليه من فارق السعر بين البنوك وشركات الصرافة هو زهيد للغاية مقابل التأثيرات الكارثية التى تلحق بالاقتصاد المصرى من جراء تزايد الفجوة بين السعرين الرسمى والموازى للدولار، فالمستثمر الذى يشترى الدولار بسعر أعلى من المتاح فى البنوك لا يتحمل هذا الفارق، وإنما يتم تحميل الفارق على المواطن البسيط الذى باعتباره المحطة النهائية للسلعة، ودافع ثمنها مهما كان. واختتم بالقول: تعتمد مصر فى تدبير مواردها من العملة الصعبة «الدولار» على عائدات قناة السويس، وقطاع السياحة، وتحويلات المصريين بالخارج، والصادرات للخارج. ويتراوح حجم تحويلات المصريين فى الخارج من 18- 20 مليار دولار سنويا، بينما أكدت آخر الإحصائيات الرسمية التى نشرتها الحكومة عن عائدات قناة السويس خلال النصف الأول من العام الجارى أنها بلغت 2.538 مليار دولار، بتراجع 1.3% عن عائداتها خلال الفترة نفسها من العام الماضى والبالغة 2.572 مليار دولار. أما قطاع السياحة، فيعانى تراجعا منذ ثورة 25 يناير وبالتالى قلت العائدات الدولارية المتوقعة، ففى الوقت الذى تخطت عائدات القطاع فى العام 2010 نحو 15 مليار دولار وصلت خلال العام المنصرم إلى 7.5 مليار دولار. وبحسب الخبراء فإن الجريمة التى تدور أحداثها فى أروقة شركات الصرافة نتيجة ندرة الدولار بالسوق المحلى، وعدم إتاحته للمستوردين تفوق التوقعات حيث تستورد مصر المواد الخام التى تدخل فى جميع الصناعات سواء فى مجال البناء، أو الدواء، أو الغذاء، أوالتصنيع، أو حتى التجميع، ما يجعل السوق المصرى معتمدا بشكل رئيسى على الدولار الأمريكى. وبالتالى تنامت المخاوف من تأثير تداعيات ندرة الدولار، ليس على احتياجاتنا من السلع الاستهلاكية والغذائية فحسب، بل امتدت لتشمل الصحة، فهناك ملايين حياتهم باتت معرضة لخطر نقص الأدوية التى لا يوجد لها بديل محلى بسبب توقف الشركات عن الاستيراد. وقال أحمد الزينى رئيس الشعبة العامة لمواد البناء باتحاد الغرف التجارية إن خامات الحديد بالكامل يتم استيرادها من الخارج، مشيرًا إلى أن طن الحديد زاد بمقدار 50-450 جنيها مؤخرا، وبوادر أزمة نقص الحديد قد تلوح فى الأفق قريبًا. كما أن أغلب مواد البناء المصنعة فى مصر خاماتها مستوردة من الخارج ويتحملها المواطن فى نهاية المطاف، ولكن بتكلفة أكبر من قيمتها الحقيقية. وانتقد الزينى السياسة النقدية التى أدت إلى خلق سوق سوداء بسبب ندرة الدولار، وزيادة المضاربة عليه، مع تراجع قدرة البنك المركزى على توفيره للمستوردين وأصحاب الشركات والمصانع والتجار. وحذر الزينى من موجة غلاء جديدة فى أسواق الدواجن واللحوم بعد زيادة طن الذرة من 2000 جنيه إلى 3500 جنيه فى أيام قليلة، بسبب قلة فى المعروض. ويلقى خبراء باللائمة على سياسات البنك المركزى معتبرين أنها السبب وراء انتعاش السوق السوداء للدولار مؤكدين أن الجنيه يجب أن ينخفض أكثر بكثير لتعود مصر إلى قدرتها على المنافسة الخارجية. وقالوا إن البنك المركزى متردد فى السماح بهبوط سعر صرف الجنيه بسرعة الخوف من زيادة التضخم، كما أن مصر تستورد الكثير من المواد الغذائية التى سترتفع أسعارها بشدة إن انخفض سعر الجنيه، ما سيؤدى إلى الكثير من المشاكل. وتوقعوا أن يقوم الرئيس الجديد للبنك المركزي، بإتباع سياسة أكثر حسماً، فى الوقت الذى دفعت التوقعات بالمزيد من انخفاض قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية إلى نكوص المستثمرين، خاصة أن القوانين المنظمة لانتقال رأس المال تهدف إلى دعم الجنيه، ففى العام الماضى، حددت الحكومةُ سقفَ الحوالات الخارجية بمائة ألف دولار فى السنة. وهذا العام، وفى محاولة للضغط على السوق السوداء، حددت حجم الإيداع فى الحسابات البنكية بالعملة الأجنبية بعشرة آلاف دولار يوميًا و50 ألف دولار شهريًا. هذه الإجراءات، بالإضافة إلى قيام الحكومة بتقنين العملة الأجنبية، كان لها تأثير سلبى على العمل، إذ تشتكى الشركات من نقص السيولة اللازمة للاستيراد، وبالتالى تتوجه نحو شركات الصرافة والسوق الموازية لتدبير احتياجاتها. أسعار السلع وقال أحمد شيحة رئيس شعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية: إن الارتفاع المتواصل للدولار فى السوقين الرسمى والسوداء، سيؤدى إلى زيادة فى أسعار السلع الأساسية، وسيؤثر سلبًا على معدلات التضخم، وسيؤدى أيضًا إلى ركود فى الإقبال على شراء السلع الكمالية، لارتفاع أسعارها تأثرًا بالدولار. وأضاف أن المستهلك وحده هو من سيدفع الثمن، خاصة وأن فاتورة الواردات ستقفز بشكل كبير نتيجة شح الدولار وصعوبة تغطية خطابات الضمان بالكامل من جانب الجهاز المصرفى. وفى السياق قال الدكتور على مسعود أستاذ الاقتصاد بجامعة سوهاج:أن هناك بديلان ليس لهم ثالث أمام البنك المركزى، الأول وهو أن يفرض رقابة صارمة على سوق الصرف الأجنبى، وهذا البديل لا أسانده نظراً لما سوف يسببه من اختلالات فى العديد من قطاعات الاقتصاد القومى وكذلك تعميق السوق السوداء وغيرها من المشاكل المزمنة. لذا فأن البديل الثانى وهو قيام البنك المركزى بصورة مفاجئة بتعويم الجنيه المصرى تماماً وعدم التدخل بتاتاً لدعمه، فى هذه الحالة ستؤدى إلى ارتفاع فى الأسعار بصفة عامة وهزة كبيرة ولكن ليس بالمدمرة لسوق المال سرعان ما تستقر بعدها الأمور ويعود البنك المركزى لمهمته الرئيسية وهى استقرار معدلات الأسعار والحد من معدلات التضخم، نعم سياسيًا يعتبر هذا البديل مكلف ولكن فى الأجل القصير فقط أما مع مرور الوقت فسوف تستقر الأمور مرة أخرى.