من عام 1987 التقيت بالمشير محمد عبد الغنى الجمسى - رحمه الله - خمس مرات. المشير الجمسى لمن لا يعرفه من الأجيال الجديدة هو أحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة، وكنت ألتقى به سنويا فى ذكرى الانتصار.. وأتحدث معه عن تفاصيل الساعات الرهيبة التى عاشتها مصر حتى نجحت فى عبور قناة السويس وعبور هزيمة 1967 وتحقيق أعظم انتصار فى تاريخ الجيش المصرى الحديث. وفى كل مرة كنت ألتقى فيها بالمشير الجمسى كنت أشعر أننى ألتقى بشخصية أسطورية خرجت من أوراق التاريخ! ولم يكن ذلك غريبا على الرجل الذى وصفته جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل أيام حرب أكتوبر بالجنرال النحيف المرعب! رأيت هذا الجنرال النحيف المرعب واقتربت منه واستمعت إليه وأدركت لماذا أطلق عليه الأعداء هذا الوصف.. فالرجل كان يملك كمية من الجدية والانضباط لا يمكن وصفها.. كان جنديا بكل ما تحمله الكلمة من معان.. شكلًا وموضوعًا. وعرفت منه وعنه الكثير.. عرفت كيف شارك فى إعداد الجيش المصرى للحرب وكيف وضع خطة هذه الحرب وكيف كان النصر حليفه هو وباقى قادة الجيش المصرى فى ذلك الوقت. حكى لى المشير الجمسى عن «كراسة الجمسى».. كما أطلق عليها الرئيس الراحل أنور السادات بعد حرب 1973. قال لى المشير الجمسى إنها كانت كراسة ابنته الطالبة بالمرحلة الابتدائية، وقد كتب فيها دراسة كاملة عن أنسب التوقيتات للقيام بعملية الهجوم على القوات الإسرائيلية المحتلة فى سيناء وفى الجولان.. وقام بعد ذلك بتسليمها باليد للمشير أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة المصرية خلال فترة الحرب حرصا وضمانا للسرية. وهكذا كان المشير الجمسى - رحمه الله - هو الرجل الذى اختار فى الواقع موعد العبور.. موعد الحرب التى غيرت وجه العالم! ??? كان المشير الجمسى يشغل منصب رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، وقد طلب منه فى أوائل عام 1973 وضع دراسة عن أنسب التوقيتات للقيام بالهجوم على القوات الإسرائيلية المحتلة سواء فى سيناء أو فى الجولان.. وذلك لكى يتم وضع هذه الدراسة أمام الرئيس المصرى أنور السادات والرئيس السورى حافظ الأسد لاختيار التوقيت المناسب لبدء الهجوم. وأسأله عن مضمون هذه الدراسة فيقول لى هذه الدراسة شملت التفاصيل كلها بدون استثناء.. المواصفات الفنية لقناة السويس.. المد والجزر.. سرعة التيار البحرى فى مياه القناة واتجاهاته.. ساعات الإظلام وساعات ضوء القمر.. حالة البحر الأبيض المتوسط وحالة البحر الأحمر.. مواعيد الأعياد والعطلات الرسمية فى إسرائيل وتأثيرها على إجراءات التعبئة العامة.. حيث المعروف أن الجزء الأكبر من الجيش الإسرائيلى هو من القوات الاحتياطية.. ثم بعد ذلك أفضل توقيت يناسب الجبهة المصرية والجبهة السورية للهجوم.. بحيث تتحقق أكبر استفادة للقوات المصرية والسورية. باختصار تضمنت الدراسة التى قام المشير الجمسى بإعدادها وهو رئيس لهيئة عمليات القوات المسلحة كل شىء وأى شىء.. كل التفاصيل فلم يترك تفصيلة واحدة للظروف.. وقد نالت هذه الدراسة إعجاب وانبهار الرئيس السادات وتم الاعتماد عليها فى اختيار التوقيت المناسب للحرب.. الساعة الثانية ظهرا من يوم 6 أكتوبر 1973. وراح المشير الجمسى يروى لى كيف غادر منزله ليلة الحرب إلى غرفة العمليات وكيف حارب. ??? قال لى المشير الجمسى إنه لم يعرف أحدا أنه ذاهب للحرب.. لا زوجته ولا أولاده.. لم يظهر على ملامح وجهه أى تعبير.. وعندما وصل إلى غرفة العمليات التى لم يغادرها إلا بعد انتهاء الحرب ظلت عيناه مثبتتان على الساعة الكبيرة المعلقة تحسب الساعات والدقائق والثوانى المتبقية على ساعة الصفر! كان المشير الجمسى داخل غرفة العمليات بحكم منصبه كرئيس لهيئة عمليات القوات المسلحة، لكنه فى الحقيقة شغل قبل ذلك عدة مناصب هامة.. فقد تولى رئاسة هيئة تدريب القوات المسلحة، ثم عُين رئيسا للمخابرات الحربية.. وخلال الحرب اختاره الرئيس السادات رئيسا لأركان القوات المسلحة خلفا للفريق الشاذلى بعد الخلاف الذى وقع بين الرئيس السادات والفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان القوات المسلحة بسبب ثغرة الدفرسوار.. وفيما بعد اختاره الرئيس السادات ليكون رئيسا للوفد المصرى خلال مفاوضات فك الاشتباك فى أوائل عام 1974.. ثم عُين المشير الجمسى بعد ذلك وزيرا للحربية خلفا للمشير أحمد إسماعيل الذى توفى فى عام 1974.. وظل المشير الجمسى فى منصبه حتى عام 1978 وبعدها عُين مستشارا عسكريا لرئيس الجمهورية وتقاعد بعد ذلك بناء على طلبه فى عام 1980. وبحكم كل هذه المناصب كان المشير الجمسى يعرف الكثير.. وقد عرفت منه كيف تم إعداد الجيش المصرى وكيف تم تدريبه وكيف كانت الحرب الفعلية وعملية العبور تطبيقا لتدريب مسبق شمل كل التفاصيل.. العبور وهدم خط بارليف واحتلال النقاط الحصينة.. كل التفاصيل. ويحكى لى المشير الجمسى عن خطة خداع العدو التى شملت تحريك القوات المصرية أكثر من مرة وإيهام العدو بأن هذه التحركات ليست أكثر من تدريبات شكلية لشغل الجبهة الداخلية.. وفرق الكسل التى أوحت للإسرائيليين بأن الحرب من رابع المستحيلات.. ثم الأخبار الرسمية عن فتح باب العمرة فى رمضان قبل الحرب بأربعة أيام لضباط الجيش. وأعرف من المشير الجمسى أن خطة الخداع كادت تنكشف لولا يقظة المخابرات المصرية.. فقد فوجئ الجمسى بتليفون من مكتب المخابرات الحربية فى مطار القاهرة يخبره بأن طائرات مصر للطيران تسافر من المطار ولا تعود.. ويتصل الجمسى بوزير الطيران المدنى ويعرف منه أن الرئيس السادات طلب ذلك حفاظا على أسطول مصر للطيران.. وبسرعة يتصل الجمسى بالسادات ويطلب منه إلغاء تعليماته السابقة حتى لا يلفت غياب طائرات مصر للطيران عيون جواسيس إسرائيل! ??? رحم الله المشير الجمسى.. الجنرال النحيف المرعب الذى رحل عن عالمنا فى عام 2003 وإن كان لا يزال يعيش فى قلوبنا هو وكل قادة حرب أكتوبر المجيدة.