يقول سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فى سورة القلم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وينصحه بالصبر على قضاء الله وقدره (حكم ربه) بألا يكون كصاحب الحوت «يونس عليه السلام» إذ ذهب غاضبا من قومه كاظما غيظه منهم فى قلبه، فجعله الله فى ظلمات ثلاث، فنادى ربه أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين، فينقذه الغفور الرحيم من محنته ويصطفيه ويعيد إليه الوحى.. فيكون من الصالحين. فلولا ذلك- أى لولا أنه تداركته رحمة ربه- لأخرجه الحوت من بطنه وهو عليل جريح فى أرض صحراء لا زرع فيها ولا ماء وأصبح هلاكه مؤكدا بأمر الله.تلك كانت «العبرة» وملخص قصة سيدنا يونس مع قومه ومع الحوت، هذا النبى المرسل (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ) الذى بعثه الله برسالته فى القرن الثامن قبل الميلاد إلى أهل قرية (نينوى) شمال العراق، حيث كانت عاصمة لدولة الآشوريين وكانوا (مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)، ولكنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يؤمنون بالله تعالى الذى أفاض عليهم بالرزق الوفير، ومن ثم كان هلاكهم أمرا مقضيا لولا أن تداركهم ربهم برحمته فبعث فيهم نبيه يونس عليه السلام لهدايتهم إلى عبادة الله وحده دون سواه.. فسبحانه القائل (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). وسيدنا يونس من أحفاد يعقوب ويقال إن جده الأكبر هو بنيامين شقيق سيدنا يوسف، واشتهر باسم «يونس ابن متى» وعرف أيضا ب «ذا النون».. أى صاحب الحوت، ويقال إنه كان يعيش فى منطقة شرق الأردن قبل أن يتلقى التكليف الإلهى.. والطريف أن سيدنا يونس له حاليا أكثر من «مقام»، فى أكثر من بلد عربى، الأول فى منطقة الموصل شمال العراق، والثانى بمنطقة البحر الميت بالأردن، والثالث ببلدة «الكفرا» جنوبلبنان. المهم أن سيدنا يونس دعا القوم وتحمل أذاهم بينما هم يسخرون منه ويستكبرون عليه.. ولم يؤمن به وبرسالته أحد منهم، فأوحى الله إليه بأن يخبرهم بأنهم سوف يعيشون فى عذاب مستمر إن لم يؤمنوا بالله وأمهلهم لذلك ثلاثة أيام.. ولكنهم استمروا فى ضلالهم وغيهم.. فغضب يونس ولم يصطبر وخرج من القرية يائسا منهم، غاضبا عليهم، آسفا على ما سوف يحل بهم من عذاب. وعندما أدرك القوم خروج يونس من قريتهم تذكروا العذاب الذى ينتظرهم، فأحسوا بالندم وشعروا بالخوف والفزع وخرجوا من بيوتهم يبكون ويستغيثون بربهم أن يرفع عنهم البلاء ولا ينزل عليهم العذاب الموعود، وأعلنوا توبتهم جميعا.. فاستجاب الله لدعائهم.. ومن يجيب المضطر إذا دعاه.. أليس هو الله ؟! يقول سبحانه فى قرآنه الكريم (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ). لقد جرت العادة مع جميع الأنبياء من قبل ومن بعد يونس أن يؤمن البعض ويظل البعض الآخر على كفره، فيتوب الله على من آمن ويتوعد من كفر بالعذاب الأليم، إلا قوم يونس فقد آمنوا به جميعا.. فرفع عنهم ربهم العذاب ومتعهم طوال حياتهم. أما سيدنا يونس فبعد أن خرج غاضبا من القرية ومن فيها توجه إلى البحر، فرأى سفينة تستعد للإبحار ولكنها مليئة بالركاب والبضائع، ومع ذلك أخذوه معهم بعد أن رأوه رجلا صالحا، وقد وصف القرآن هذا الموقف: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أى كأنه عبد هرب من سيده ولكن إلى سفينة مشحونة بمن فيها ومن عليها، وعندما حل الظلام، ارتفعت الأمواج واشتدت الرياح وتمايلت السفينة شمالا ويمينا وكأنها على وشك الغرق، فاتفقوا على تخفيف حمولتها وبدأوا بإلقاء البضائع، ولكن دون جدوى، ثم لجأوا إلى «القرعة» لإنزال الحمولة الزائدة من الركاب وكانت القرعة تتم فى ذلك الوقت من خلال إطلاق السهام على الأسماء، وقد أشار السهم الأول على يونس فأعادوا القرعة من جديد، فأصابه السهم الثانى مرة أخرى، فأعادوا القرعة للمرة الثالثة، فلم يخلف السهم وعده ولم يخطأ هدفه، فتأكد يونس أنه المقصود.. وأن هذا قضاء الله ولا مفر من قضاء الله، فألقى بجسده فى الماء. هنا يقول المفسرون إن «يونس» أخطأ عندما خرج من القرية بدون إذن ربه، معتقدا أن ربه لن يعاقبه على فعلته (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ). لقد أمر الله الرياح بأن تشتد والأمواج بأن ترتفع.. حتى توشك السفينة على الغرق.. وقد تأكد يونس بعد «التساهم» أنه المقصود.. وبعد أن كان من الخاسرين.. ألقى بنفسه فى الماء فالتقطه الحوت وهو يشعر بالذنب من فعلته (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)، وإذا كان الله رحيما بعباده فما بالك مع أنبيائه ورسله، لقد أمر الله الحوت ألا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما.. وعندما استقر يونس فى بطن الحوت.. ووجد نفسه لايزال حيا.. شعر بالندم ولجأ إلى ربه أن يعفو عنه.. وناداه من الظلمات الثلاث: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل.. (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ).. أى.. يارب إنى ظلمت نفسى.. عندما خرجت غاضبا، ولم أستأذنك فى المغادرة ولم أكمل مهمتى التى كلفتنى بها، ولكنك يارب أنت القادرعلى كل شىء.. فلا إله إلا أنت.. فاعفوا عنى واغفر لى ذنبى.. وظل يونس يسبح بهذا الدعاء لمدة ثلاثة أيام.. وقيل أكثر.. فاستجاب له ربه.. وأمر الحوت أن يقذف به إلى الساحل.. ثم بسط الله نعمته عليه فأنبت بجوار جسده السقيم شجرة القرع الشهيرة بورقها الضخم لتظلله وتحميه من الحشرات والذئاب. لقد كان يونس من المسبحين.. وإلا لاستمر فى بطن الحوت إلى يوم القيامة.. أى تحول بطن الحوت لقبر له إلى يوم أن تعود الروح إليهما معا يوم البعث الجديد.. (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).. ولكن الله استجاب له ونجاه من الغم.. وكذلك ينجى المؤمنين.. ??? والجدير بالذكر أن الحيتان تعد من أكبر الكائنات الموجودة حاليا فطولها لا يقل عن 25 مترا فى المتوسط ووزنها لا يقل عن 90 طنا، كما أنها كائنات معمرة.. كالإنسان حيث يعيش بعضها إلى أكثر من 75 عاما. ومع أن الحوت يعيش فى المحيطات والبحار ذات المياه العميقة إلا أنه يغرق إذا لم يمارس العوم لمدة 30 دقيقة، ولذلك تجده يسارع بالخروج إلى سطح الماء طاردا زفيره فيما يشبه النافورة التى ترتفع إلى حوالى 12 مترا، ثم يحصل على «شهيقه» من خلال الرئتين مباشرة. ويقال إن الحوت يمكن أن يبتلع وزنه ماء.. والصغير منه يولد بعد 16 شهرا من الحمل ويستمر فى الرضاعة من ثدى أمه لمدة 6 أشهر.. وبعدها يعتمد على نفسه فى الغذاء، وكثيرا ما تقذف الأمواج بقطيع من الحيتان إلى الشاطئ فيما يشبه «الانتحار الجماعى»، حيث لا تستطيع العودة إلى الماء إلا بمساعدة خارجية وهو ما يقوم به بعض المتطوعين فى أوروبا وخاصة أيسلندا. وقد كثرت مؤخرا عمليات صيد الحيتان حيث يستخدم لحمه كطعام، وزيوته للإنارة.. وأيضا لمستحضرات التجميل والدواء.