العدالة الاجتماعية.. حلم الفقراء.. وجنة المظلومين ومطلب الثائرين فى كل زمان ومكان.. سُنة الله فى الكون ولا يحيد عنها إلا سلطان جائر أو حاكم ظالم. وفى تاريخ مصر الحديث منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى اليوم هناك فترات مد وجذر ارتفعت فيها أو انحسرت المطالبات بالعدالة الاجتماعية.. وكانت دائمًا فترات المد مرتبطة بثورات المصريين، هذه الثورات التى خرجت من طين الأرض من الريف وأبناء المدن الفقراء أو من عند عمال المصانع المستنزفين لصالح أرباب العمل وتغذت هذه الثورات بأفكار وآراء النخب التى حملت على أكتافها مطلب تحقيق العدالة الاجتماعية. وخلال ثلاثة أرباع القرن الأخيرة فى عمر الدولة المصرية تحديدًا مرت مصر بمشروع مهم لتحقيق العدالة الاجتماعية، انطلق هذا المشروع بقوة مع نجاح ثورة 23 يوليو 1952 وتصاعد مع توجه النظام السياسى المصرى للأفكار الاشتراكية والمعسكر الاشتراكى، لكن هناك نكسة أصابت الأفكار والتوجهات مع وصول الرئيس السادات للحكم بداية السبعينيات والاستدارة بوجهه نحو الغرب الرأسمالى وأفكاره عن الحرية الاقتصادية واقتصاديات الوفرة وثقافة اللذة، وركبت مصر قطار الرأسمالية الذى لا يرحم ومضت فى طريقها إلى أن وصلت إلى محطة 25 يناير 2011 لترتفع مجددًا أصوات المطالبين بالعدالة الاجتماعية. وفى هذا الملف نناقش رحلة العدالة الاجتماعية منذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وإلى الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسى.. ما كان وما هو حاصل وما هو مأمول، وهى ليست محاكمة للأشخاص والأنظمة وسياساتها ولكن سعى وبحث عن الأفضل للوطن والناس.تحقيق العدالة الاجتماعية مطلب يمكن إدراكه، بحسب د. فخرى الفقى، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة المستشار السابق لصندوق النقد الدولى، من خلال تطبيق المذهب الرأسمالى فى الاقتصاد، وأن التجارب الدالة على ذلك عديدة ولا حصر لها، بل إن التفاوت فى الدخول سمة أساسية فى البلدان الاشتراكية، ودراسة التجارب الاشتراكية فى قارة آسيا أو فى أوروبا الشرقية تثبت صحة هذه المزاعم، وأن التنمية هى السبيل الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية، على أن تصاحب جهود التنمية فى مناخ من الحريات الاقتصادية حرص الدولة على بناء شبكات الحماية الاجتماعية. لا تعانى البلدان المتقدمة الرأسمالية-مثل غيرها من البلدان الأخرى- مشكلة غياب العدالة الاجتماعية، نظرا لأن هياكلها الاقتصادية تتسم بالتوازن والاستقرار والنضوج، بما يترتب عليه تحقيق معدلات تنمية مستدامة تسمح بإقرار برامج حماية اجتماعية تقوم بتوزيع فوائض التنمية «ثمار التنمية» بشىء من العدالة، بما يترتب عليه تقليل التفاوت فى الدخول بحيث تتلاشى معدلات الفقر، ويعيش كل المجتمع فى حالة من الرفاهية الاقتصادية، بما لا يترتب عليه أى تقصير من قبل الدولة فى حماية الملكية الخاصة، لأن حماية هذه الملكية مطلب أصيل لتحقيق الرفاهية لعموم المجتمع. لكن أزمة العدالة الاجتماعية فى البلدان النامية ومنها مصر- بغض النظر عن تبنى النظام الاشتراكى أو الرأسمالى فى إدارة الاقتصاد- تتجسد فى عدم اكتمال هياكل الإنتاج بما يترتب عليه من اختناقات متكررة فى منظومة الاقتصاد، فالناتج المحلى الإجمالى يشهد زيادات دورية دون أن يترتب على هذه الزيادات تنمية حقيقية، فهذه الزيادات يتم ترجمتها إلى زيادات ملحوظة فى دخول فى بعض فئات المجتمع دون غيرها، بما يترتب عليه من تفاوت فى الدخول وبالتالى انعدام العدالة الاجتماعية. بالتالى، فإن الدولة لن تتمكن من تحقيق العدالة الاجتماعية عبر إقرار تشريعات فحسب بل الأمر كله مرتبط بالقدرة على تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة بالتزامن مع إقرار برامج حماية اجتماعية، وهذا يحتاج بدوره إلى إعادة هيكلة الاقتصاد، والعمل على علاج الاختلالات المالية فى الموازنة العامة للدولة وميزان المدفوعات، وأخيرا، صياغة شبكة متكاملة للحماية الاجتماعية، على أن يتم البدء من إعادة هيكلة الاقتصاد بما ينتج عنه تنمية حقيقية يترتب عليها ثمار للنمو يتم توزيعه من خلال الشبكات، أى البدء فى اتخاذ الإجراءات اللازمة لزيادة الكعكة ثم البدء فى إجراءات توزيعها بعدالة عبر شبكة الحماية الاجتماعية. وكانت هذه الكعكة، وفقا ل د.فخرى الفقى فى العهد الناصرى يتم الحرص على توزيعها بعدالة دون الاهتمام بتنمية هذه الكعكة وزيادتها بما يترتب عليه الرفاهية الاجتماعية، بحيث أولى الرئيس جمال عبد الناصر الاهتمام الأكبر للملف الاجتماعى السياسى دون الاهتمام بالملف الاقتصادى، ومن ثم وجد المواطن نفسه أمام معضلة خطيرة للغاية، وهى تراجع فى معدلات التنمية الاقتصادية على الرغم من أن الخطة الخمسية الأولى (1960– 1965) نجحت فى تحقيق معدلات نمو معتبرة لكن هذا الأداء لم يستمر على نفس الوتيرة نتيجة تغليب الاعتبارات الاجتماعية والسياسية على الاقتصادية. ثم كانت المرحلة التالية، التى تولى فيها الرئيس السادات السلطة (1971– 1981)، التى شهدت إعادة ترتيب أولويات الأجندة الحكومية، بحيث تم تغليب الجوانب السياسية الاقتصادية على الاعتبارات الاجتماعية، فكانت قرارات الانفتاح الاقتصادى الرامية إلى تطوير الاقتصاد بإقرار آليات السوق فى إدارة الاقتصاد، لكن هذا التطور حدث دون إقرار آليات حماية اجتماعية فكانت آثاره سلبية على منظومة العدالة الاجتماعية، ليأتى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك ليكمل ما بدأه الرئيس السادات، فالنمو يتحقق لكن ثماره لا تصل إلى المواطن لانسداد قنوات العدالة الاجتماعية. هكذا، كان الرئيس عبد الناصر حريصا على تحقيق العدالة الاجتماعية بما أصدره من قوانين تخدم هذا الهدف مثل قوانين الإصلاح الزراعى والتأميم فى القطاع الزراعى، بحيث تم انتزاع الأراضى الزراعية من ملاكها الإقطاعيين لتوزيعها على المزارعين من الفلاحين الفقراء. ثم كان التأميم فى القطاع الصناعى بحيث تم إقرار قوانين تلزم بضرورة أن يكون 50% من مجالس إدارات المصانع من العمال بما يعطى لهم فرصة جادة لتعظيم دخولهم من إدارة هذه المصانع، وترتب على ذلك كله، أن أصبحت الحكومة المتحكم الرئيسى فى كافة قطاعات الاقتصاد، وأصبح الدعم أحد أهم آليات تحقيق العدالة الاجتماعية، فالأمر كان تقسيم الكعكة دون أن يتم تنميتها، فالعدالة فى توزيع الفقر أمر غير مطلوب. وبعد وفاة عبد الناصر، والكلام مازال ل«د.الفقى»، جاء السادات لينمى الكعكة، فكان عيبه أنه نمى بدون شبكة حماية، فالسادات كان فى حاجة ماسة إلى شبكة حماية اجتماعية، خاصة فى حالة اتخاذ قرار الانفتاح الاقتصادى، لكن الوقت لم يسعفه لإعادة البناء الاقتصادى فاغتيل السادات، ثم جاء مبارك ليستمر على ذات النهج فى التنمية الاقتنصادية، لكنه أهمل إعادة صياغة شبكة الحماية الاجتماعية. وبدأ المرض يمسك بتلابيب الهياكل الاقتصادية، كونها تعانى حالة من التشوه، لأنها هياكل عفى عليها الزمن، فمن يسقط دون السن الاجتماعية لا تلتقطه شبكة الحماية الاجتماعية، لأن فتحات هذه الشبكات كانت واسعة جدا، وبالتالى زاد الفقر بالتزامن مع تباهى الحكومات بتحقيق معدلات نمو سنوى 7 و8%، إلا أن ثمار هذا النمو لم تصل إلى الفقراء. واتسمت هذه الفترة، بحسب د. فخرى الفقي، بالتفاوت الهائل فى الأجور سواء للعاملين فى القطاع الحكومى أو غيره، وتوقفت الحكومة عن تعيين الخريجين، لأن الفساد كان يعم كل أرجاء الدولة، وأصبحت السمة الغالبة أن الفقير يزداد فقرا والغنى يزداد غنى، فنظام مبارك كان يهتم بالنمو دون آليات إعادة توزيع ثماره، نتيجة هذا الفساد والبيروقراطية والفقر بدأ المخطط الخارجى لاستغلال الغضب الشعبى لإسقاط الدولة المصرية، وذلك من خلال ثورتى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، التى خرج فيهما المصريون للمطالبة بضرورة تعزيز الاهتمام بالاقتصاد وتحقيق الحرية السياسية، ثم تكون فيما بعد العدالة الاجتماعية. خلال هذه الفترة، كان الشعب يطالب بضرورة الاهتمام بالاقتصاد أولا لتنمية الكعكة، ثم تكون فيما بعد العدالة الاجتماعية، تتوازى العدالة الاجتماعية مع التنمية الاقتصادية، وتم بالفعل المضى قدما صوب تطبيق الحدين الأدنى والأقصى للأجور بما يقلل التفاوت فى الدخول قدر المستطاع، وإن كنت أرفض فكرة الحد الأقصى للأجور، وكذلك بدأت الدولة تولى اهتمامًا أكبر ببرامج الحماية الاجتماعية الأخرى مثل الإسكان الاجتماعى وتطوير العشوائيات، وزيادة الإنفاق على الصحة والتعليم، وتحسين منظومة معاشات الضمان الاجتماعى التى تغطى الآن نحو 3 ملايين أسرة، وإعادة النظر فى منظومة الدعم بما يحقق العدالة الاجتماعية. المطلوب، فى رأى د. الفقى، المضى قدما لتطبيق منظومة إعانات البطالة، على أن تكون هذه الإعانة مشروطة بشكل لا يجعل الشباب المتعطل عن العمل يعزف عن العمل رغبة فى الحصول على هذه الإعانة، علاوة على ضرورة إعادة النظر فى منظومة التعليم والصحة، بحيث يتم تحسين المنظومة (مبان– مناهج– معلمين وتلاميذ)، خاصة أن الدستور يتحدث عن ضرورة زيادة الإنفاق على الصحة والتعليم إلى 10% من الناتج القومى، وزيادة الاهتمام بالمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر لما لها من قدرة على توفير المزيد من فرص العمل لمواجهة معدلات البطالة المرتفعة، التى تضرب العدالة الاجتماعية فى مقتل.