لم تكن هذه هى المحاولة الأولى للإطاحة بالبابا تواضروس أو تقليص صلاحياته، بل سبقتها محاولتان سابقتان فى الشهور القليلة الماضية، على الرغم من أن جلوسه على كرسيه لم يمض عليه إلا حوالى عامين ونصف (وهى فترة قليلة مقارنة بحوالى 40 عامًا قضاها سلفه البابا شنودة)، ورغم شعبية البابا فى الشارع القبطى التى جعلته يتمتع حتى بتأييد تيارات المعارضة التقليدية فى الكنيسة مثل التيار العلمانى وأقطابه الذين رأوا فيه أنه يتمتع برؤية إصلاحية، لكن يبدو أن هذا لم يعجب الحرس القديم فى الكنيسة الذين كانوا يرون أنهم أحق بالمنصب من الجالس على عرش مارمرقس. والمحاولة التى نتحدث عنها هى ما أطلق عليه حركة تمرد على غرار حركة تمرد السياسية.. وتهدف إلى جمع توقيعات على استمارة لعزل البابا. وعموماً لم يكن البابا تواضروس هو البابا الوحيد من باباوات الإسكندرية الذى تعرض لمثل هذه المحاولات سواء قديمًا أو حديثًا، فقد شهد التاريخ الكنسى خلال القرن العشرين أكثر من واقعة لعزل البابا، كان أولها فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى خلال حبرية البابا مكاريوس الثالث، الذى انحاز فى بداية توليه الكرسى الباباوى إلى رؤية أراخنة الكنيسة (العلمانيين) فيما يتعلق بموضوع مشاركة المجلس الملى والعلمانيين فى إدارة الكنيسة، ثم تحت ضغط البعض داخل المجمع المقدس تراجع عن موقفه، ووصل الصراع إلى أن تم إبعاد البابا إلى الدير، وما لبث البابا أن رحل عن العالم بعد عودته من الدير لتكتب وفاته كلمة النهاية فى تاريخ الصراع، ولم يكن قد جلس على الكرسى الباباوى أكثر من 11 شهرا تمثل أقل فترة لبطريرك على عرش مارمرقس. الواقعة الثانية كانت فى أيام حبرية البابا يوساب الثانى والذى شهد عهده محاولتين لعزله، كانت أولها عام 1954من خلال تنظيم الأمة القبطية الذى استطاع بعض الشباب من أعضائه بزعامة المحامى الشاب وقتها إبراهيم فهمى هلال الوصول لغرفة نوم البابا فى منتصف الليل، وإجباره على توقيع وثيقة تنازل عن العرش الباباوى، وبعدها أجبروه على ركوب سيارة أوصلته لأديرة وادى النطرون، ويقال إن بعض الأساقفة كانوا وراء هذا الشباب وإن لم يتصدروا المشهد فى حينه، وبالطبع فقد فشلت المحاولة بتدخل الدولة التى أعادت البابا إلى كرسيه، ولم تمض شهور قليلة على عودته حتى جاءت المحاولة الثانية من خلال المجمع المقدس الذى اتخذ وقتها قراراً بتجميد نشاط البابا، وتشكيل لجنة ثلاثية لإدارة الكنيسة، والتى استمرت فى عملها حتى نياحة البابا. أحداث المحاولات أما الواقعة الثالثة والأشهر فجاءت مع الصدام الشهير بين الرئيس السادات والبابا شنودة خلال أحداث سبتمبر والتى على أثرها أصدر السادات قراره بسحب اعتماد انتخاب البابا والتحفظ عليه بدير الأنبا بيشوى، وتشكيل لجنة من 5 من المطارنة لإدارة شئون الكنيسة واستمر البابا فى الدير حتى بعد اغتيال السادات حتى عاد إلى كرسيه عشية عيد الميلاد فى يناير 1985. أما عهد البابا تواضروس فقد شهدت فترته القصيرة تواتر أنباء عن عدة محاولات لعزله أو على الأقل تقليص صلاحياته لصالح الأساقفة من الحرس القديم، ففى يناير الماضى وخلال اجتماع المجمع المقدس تواترت شائعات عن محاولة مجموعة من الأساقفة تقليص مهام البابا وصلاحياته مستندين فى ذلك إلى محاولاته التقارب مع الكنائس الأخرى خاصة الكنيسة الكاثوليكية، معتبرين ذلك خروجًا عن التقليد الكنسى، الشائعات وقتها تحدثت عن مخطط لتشكيل لجنة لإدارة الكنيسة مثل اللجان السابقة، ولكن هذه المرة فى وجود البابا وبمشاركته، تسرب الأخبار وحده كان كفيلا بوأد المحاولة فى مهدها خاصة مع الشعبية الكبيرة التى تمتع بها البابا سواء فى الشارع القبطى أو على المستوى المصرى العام، والتى جعلت حتى التيارات التى توصف تقليديًا بأنها معارضة للكنيسة مثل التيار العلمانى تقوم بمساندة البابا باعتبار أن هذه المحاولة تمس الكنيسة ووحدتها بأكثر مما تمس البابا ولم تمض شهور قليلة وبالتحديد فى شهر مايو الماضى حيث ترددت أنباء عن انفصال إيبراشية جنوبأمريكا عن الكنيسة القبطية، حيث استغل البعض سعى الأنبا يوسف أسقف الإيبراشية لترتيب الخدمة بحسب طبيعة وتكوين الجيل الثالث من المهاجرين سواء فى اللغة التى يتم بها الصلوات فى الكنائس هناك، أو طبيعة المشاكل التى يعانون منها أو احتياجات الخدمة مع هذا الجيل، ومع أن هذه الترتيبات كانت تتم بالاتفاق بين الأنبا يوسف وقداسة البابا تواضروس، وكانت هناك لجنة متخصصة فى المجمع المقدس لدراسة المسألة تمهيداً لعرضها على اجتماع المجمع المقدس السنوى، فقد بادر من يحاولون إحراج البابا وخلق المشاكل بتسريب معلومات منقوصة وغير صحيحة وأشاعوا أن ما يتم هو انفصال لإيبراشية جنوبأمريكا عن الكنيسة الأم وإنشاء كيان منفصل ومستقل بالمخالفة للحقيقة، وسارعت الكنيسة وقتها وأدًا للشائعات إلى إصدار بيان يؤكد أن الإيبراشية لم تنفصل، وإنما كان الأمر توجه لإعادة ترتيب الخدمة بها بالاتفاق مع الكنيسة الأم فى القاهرة. وثيقة تمرد ثم جاءت آخر المحاولات خلال الأيام القليلة الماضية والتى تمثلت فى محاولة تمرد الأخيرة والتى قام بها مجموعة من الأشخاص الذين لديهم مشاكل فى مسألة أحوالهم الشخصية، ولم تجد حلولًا على الأرض لسنوات طويلة، فجاء رد فعلهم بهذه الحدة، من خلال إعادة إنتاج ما حدث فى 30 يونيو من حركة تمرد التى كانت بمثابة صك إنهاء حكم الرئيس الأسبق مرسى، وقاموا بدعوة الأقباط للتوقيع على استمارة تمرد ضد البابا، متناسين شعبيته، ومتجاهلين اختلاف معطيات السياسة عن مثيلتها الكنسية، وأن الكنيسة لها قواعد مستقرة بامتداد عمرها ولا يملك أحد الخروج عليها إلا من خلال القنوات الشرعية التى رتبتها الكنيسة والتى ليس من بينها بالتأكيد جمع توقيعات لعزل البابا.. ولم تخل الحكاية من مفاجآت. والمفاجأة الأولى أن الشخص الذى تزعم فكرة تمرد المسيحية لا يعيش فى مصر الآن، وانما سافر إلى ألمانيا مؤخراً، ويردد البعض انه حصل على حق اللجوء هناك، وكأنه أراد قبل ان يسافر ويترك مصر أن يلقى كرة اللهب مشتعلة ويزيد الوضع ارتباكاً. خط أحمر أما المفاجأة الثانية فجاءت فى تأكيد م. هانى عزت رئيس رابطة منكوبى الأحوال الشخصية على رفضه هذه الوثيقة تماماً، مشدداً على أن المتضررين ليس لهم علاقة بها، واصفًا إياها بأنها نوع من العبث والفرقعة الإعلامية وأن الغرض منها إثارة البلبلة، وقال لو كان الغرض منها حل مشكلة الأحوال الشخصية فكان يمكن المطالبة بعزل الأنبا بولا المسئول عن هذا الملف، وليس عزل البابا نفسه، وأضاف من المعروف أن القائمين على الوثيقة لهم توجهات سياسية لإثارة البلبلة داخل الكنيسة، مشيراً إلى أن القائمين على هذه الوثيقة لا يتعدوا أصابع اليد الواحدة. ونفى عزت وبشدة أن تكون الوثيقة هى الحل لمشكلة الأحوال الشخصية، وأضاف لقد تقابلنا مع وزير العدالة الانتقالية ومع قداسة البابا وأرسلنا تليغرافات لرئيس الجمهورية بمقترحات لحل المشكلة، وكل هذه التحركات راقية ومتحضرة وبالتأكيد فإن الدولة ستنظر لها بعين الاعتبار، وقال إنه على الرغم من أن الكنيسة لا تعطى أولوية للأحوال الشخصية إلا أن تحركاتنا يجب أن تكون متحضرة ولا تنحدر إلى هذا الأسلوب، مشدداً على أن هذه الوثيقة تضر منكوبى الأحوال الشخصية ولا تفيدهم. وأكد عزت أنه ليست لديهم خلافات شخصية مع الكنيسة فهى بيت الله، لكن الخلاف فى أسلوب معالجة المشكلة بطريقة التشدد والتعنت، وأضاف الكرسى الباباوى خط أحمر وله كل الاحترام أيا كان الجالس عليه خاصة فى الظروف الحالية للبلاد. من جهته أكد المفكر كمال زاخر منسق جبهة العلمانيين المعارضة فى الكنيسة على أنه يجب أن نقرأ الأحداث فى سياقها التاريخى، وأضاف جاء رحيل البابا شنودة الثالث صادمًا، فنحن أمام غياب مفاجئ لشخصية تاريخية امتد جلوسه على الكرسى الباباوى أكثر من 40 عامًا وقبلها 10 سنوات فى موقع أسقف التعليم، أى حوالى أكثر من نصف قرن كاملة كان البابا شنودة خلالها متصدرًا للمشهد، وبالتالى أحدث هذا نوعا من الارتباط العاطفى والإنسانى بين البابا الراحل والرعية فجاء غيابه صادمًا، وهو ما مثل عبأ على من خلفه بغض النظر عن شخصه؟ بالإضافة إلى أن موقع البابا البطريرك بفعل المتغيرات الكثيرة التى حدثت خلال النصف قرن الماضية سار محل اهتمام الإعلام والمجتمع ورجال السلطة والدوائر السياسية مما جعله محل طموح كثيرين، ومنهم من رأى أنه كان أحق بهذا الكرسى بحكم اقترابه من البابا شنودة لسنوات ممتدة، ولكن مجىء البابا تواضروس أربك كل هذه الحسابات، الأمر الذى خلق حالة من حالات السعى لتعويق مسار البابا الجديد، وهو ما يفسر لنا كل المعوقات التى واجهت قداسته فى السنوات القليلة الماضية. وأضاف زاخر أن هذه المحاولات اصطدمت بأكثر من مشكلة أولها شخصية البابا تواضروس نفسه، فهو من جيل مختلف، وكانت دراساته قبل الرهبنة مرتبطة بالإدارة فضلاً عن انتمائه لمدرسة شيخ المطارنة الأنبا باخوميوس بكل ما يتمتع به من حنكة وخبرة وثقل فى المجمع المقدس، بالإضافة إلى ذلك فقد جاءت المواقف التى اتخذها قداسة البابا تواضروس فيما يتعلق بما حدث قبل وأثناء وبعد 30 يونيو فى صالح قداسته شعبيًا وسياسياً، الأمر الذى جعل من الاقتراب منه أمرًا شبه مستحيلًا، وهو ما انعكس فى رفض الشارع القبطى المساس بالبابا وموقعه بعد تسرب أنباء هذه المحاولات. ذوبعة فى فنجان ووصف زاخر حركة تمرد القبطية بأنها حركة تفتقر لمعرفة أبسط قواعد وطبيعة الكنيسة، والتى لا تصلح فيها إدارة أزماتها بأدوات سياسية فالاعتراض والتمرد والثورة والإقالة والعزل هى مفردات مفارقة لطبيعة الكنيسة وأدبياتها، ولا تصلح بالمرة لاعتمادها فى المجال الكنسى، ومن ثم يصبح الكلام عن عزل البابا من خلال جمع التوقيعات هو نوع من السذاجة التى لا تفضى إلى نتيجة صحيحة، ولن تنتهى إلى فعل على الأرض، ولا تعدو كونها ذوبعة فى فنجان، وفى النهاية ما هى إلا حالة انتجتها معاناة بعض الأشخاص من أزمات فى حياتهم الشخصية فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية، وربما تكون لافتة لحاجة الكنيسة إلى تطوير آليات التواصل مع هؤلاء وغيرهم باعتبار الكنيسة هى الأم التى تسعى لحل مشاكل أبنائها بروح المحبة والأبوة المكلفة بها، وهو ما كان قد بدأ فيه قداسة البابا بالفعل بتشكيل لجان استماع لهذه الحالات، وقد صدر مؤخرًا قرار بتشكيل 6 لجان للنظر فى مشاكل الأحوال الشخصية وحلها، وهو تفعيل سبق اتخاذه قبل دعوات تمرد، وهذا يكشف لنا حاجة الكنيسة إلى خلق قنوات تواصل تستشعر بوادر الخطر قبل وقوعه. وأكد زاخر أن الوثيقة التى أصدرتها الحركة والتى تطالب الأقباط بتوقيعها لعزل البابا لا تتفق مع القوانين أو التقاليد الكنسية، مشدداً على أن الكنيسة وضعت قواعد منظمة للاختلاف والتوافق من خلال قوانينها التى تم اعتمادها فى القرنين الرابع والخامس الميلاديين، ومن ثم فهذه الحركة وهذا البيان سوف ينتهيان إلى لا شىء، وهذه القواعد أقرت أن إدارة الكنيسة مسئولية مجمع الأساقفة ومجلس الأراخنة (العلمانيين) وفقاً للترتيب الذى وضعته الكنيسة الأولى وذكره الإنجيل فى سفر أعمال الرسل، ومن خلالهما يتم مناقشة المشاكل والقضايا التى تظهر فى حياة الكنيسة ويتخذ بشأنها القرارات المناسبة حتى إلى مراجعة القيادات الكنسية، ومن صلاحيات المجمع المقدس عزل البابا، ولكن هذا فقط فى حالات إنكار الإيمان أو العقيدة أو الخروج عنها أو إساءة إدارة الكنيسة بما يهدد تحقيقها لهدفها الروحى وهو ما لا يتوافق مع هذه الدعوة الحالية. وحول مساندتهم المفاجئة للبابا فى محاولة البعض فى الكنيسة تقليص صلاحياته وإنشاء مجلس بمشاركته لإدارة الكنيسة أكد زاخر أن التيار العلمانى ليس معارضاً للكنيسة ولكنه يعارض التطبيقات غير السوية لما استقر فى الكنيسة، وبالتالى فهو محمل بمهمة التنبيه للأخطار التى يمكن أن تتعرض لها الكنيسة، مشيرًا إلى أن هذه المحاولات بادر التيار العلمانى بالتنبيه والإشارة إليها وكشفها ونجح فى أن يمنع استمرارها أو تنفيذها، وأضاف نحن لم نتجه يوماً إلى شخصنة الخلافات، وربما هذا هو سر استمرارنا إلى هذه اللحظة. وأضاف زاخر أن البابا تواضروس لديه رؤية إصلاحية، توفرت لديه بحكم ابتعاده عن مراكز الصراع والأضواء وتلمذته لأحد المطارنة المشهود لهم وهو الأنبا باخوميوس الذى يمتلك من الخبرة ما أفاده فى قيادة المرحلة الانتقالية حين تولى مسئولية «القائم مقام»، فضلاً عن أن البابا مؤهل علمياً من خلال دراساته العليا فى دائرة الإدارة قبل دخوله الرهبنة ولكنه وُجه بمقاومة من الدوائر التقليدية التى ترى أن التغيير لا داعى له، وهى ظاهرة يعرفها العالم الثالث والمجتمعات التقليدية التى تعانى من تراكمات معرفية واجتماعية تجعل التغيير أمرًا صعبًا وغير مقبول، ومن هنا جاءت مساندتنا كتيار علمانى للبابا تواضروس لأنه تلامس مع ما طرحناه قبلاً فى هذا الإطار. اختيار سماوى من جانبه أكد القمص صليب متى ساويروس أن كلمة «تمرد» ليست فى قاموس الكنيسة، وأضاف نؤمن أن الكنيسة هى ملكوت الله على الأرض، وكما أن المسيح هو رأس الكنيسة، فإن البابا هو رأس الكنيسة المنظور، وهو خليفة مارمرقس، والبابا إنما هو اختيار سماوى، ولا تستطيع قوة فى العالم أن تعزله.. لأنه لا يأتى بقرارات أرضية وإنما هو اختيار إلهى. وأضاف صليب أن ما يحدث مجرد تهريج وفقاعات هوائية تظهر من وقت لآخر، أو مجرد هاموش على شجرة الكنيسة سرعان ما يتبدد ويتلاشى، فما يحدث بعيداً تماماً عن كل الأعراف والتقاليد الكنسية التى تؤمن بالطاعة والخضوع للمسيح ممثلا فى شخص قداسة البابا على الأرض، وكل هذه الدعوات تتنافى تمامًا مع القوانين الكنسية التى استلمناها من الكنيسة الأولى والمجامع المسكونية. وأكد صليب أنه حتى ولو كان لهؤلاء الذين قاموا بهذه الدعوة مشاكل فى أحوالهم الشخصية وغيرها، فإنه لم يكن من اللائق أو المناسب القيام بمثل هذه المواقف البعيدة عن التقاليد والأعراف الكنسية، وهؤلاء بموقفهم هذا يضرون أنفسهم، وقد فقدوا تعاطف الشعب القبطى الذى يعرف قيمة البابا وأنه أب للجميع ولا يجوز الخروج أو التمرد عليه، وأضاف لن يفلت هؤلاء من عقاب السماء لأن أى قوة تأتى على الكنيسة وقيادتها تتبدد فى الهواء كما هو مذكور فى التاريخ السابق واللاحق.