فى العنوان توفرت كل عناصر الإثارة، ونصه كما جاء فى عدد جريدة الوطن الصادر يوم الخميس 21 من شهر مايو الحالى: «محاولة اغتصاب جماعى لمُعلّمة رفضت السماح بغش الطلاب»!! وما يوحى به العنوان لا يحتمل التأويل، ولا يمكن أن نفهم منه غير أن هناك جريمة منظمة شارك فيها عدد كبير من تلاميذ فى سن الطفولة هموا بارتكاب عمدى لجريمة اغتصاب مُدرّسة لم تسمح للطلاب بالغش، ولظروف ما فشلت محاولة الاغتصاب !! هذا ما فهمته من عنوان التقرير الخبرى الذى جاء فى حوالى 650 كلمة لكننى – للأسف – لم أجد فى متن التقرير ما يعكس بدقة منطوق العنوان المثير للقارئ ..المثير لقرفه ودافعه إلى لعن الأحوال التى قادتنا إلى ما نحن فيه من واقع يتسم بالتردى الأخلاقى والقيمى. (1) .. تحقيق الواقعة كما جاء فى تقرير الجريدة المنشور اعتمد على شهادة بعض الشهود من داخل وخارج المدرسة ومنهم أحد المعلمين (رفض ذكر اسمه) وقد صب المُعلم جام غضبه على الطلاب لأنهم قاموا بالاعتداء على مبنى المدرسة من الخارج بقذفه بالحجارة وزجاجات المياه الفارغة فتسببوا فى حالة من الرعب بين المعلمين والمعلمات (حسب تعبير كاتب التقرير). ولجأ الصحفى الذى تحرى الواقعة إلى أشخاص آخرين من خارج المدرسة ليسوا شهود عيان لكنهم سكان قريبون من المدرسة ومنهم صاحب محل عصير بالمنطقة جاء على لسانه فى التقرير أن هؤلاء التلاميذ يتناولون المخدرات داخل المدرسة ويمارسون أعمالا بذيئة طوال أيام الدراسة.. وأنا أنقل هنا حرفيًا ما جاء فى التقرير وأدعوك لأن تتوقف معى عند الكلمات وإيماءاتها أو دلالاتها وتفسر مثلا عبارة: «يمارسون أعمالا بذيئة» (!!) التقرير أيضًا ينقل عن إحدى الفتيات فى المنطقة أنها سمعت بموضوع الاعتداء على المعلمة الذى كان فى مدرسة طلعت حرب الابتدائية أثناء الامتحانات لكن التلاميذ من مدرسة مكرم عبيد الإعدادية بنين حسب كلام الفتاة التى لجأ التقرير إلى إيراد شهادتها باعتبارها مصدرًا سماعيًا (من سمعت) أن الواقعة لم تحدث من طلاب مدرسة طلعت حرب (الابتدائية) ولكنها وقعت من تلاميذ مدرسة مكرم عبيد الإعدادية بنين، ولم يوضح التقرير ولو فى جملة أن المتهمين من الطلبة هم فى المرحلة الإعدادية ذهبوا يؤدون امتحانهم فى مبنى مدرسة أخرى قد تكون بعيدة عن المنطقة التى تقع فيها مدرستهم الأصلية وهو ما يكذّب رواية الشاهد صاحب محل العصير. (2) وفى تقرير جريدة الوطن تفاصيل أخرى توحى بتقاعس المسئولين فى الإدارة التعليمية والشرطة التى لم تأت لحماية المدرسين وتحريرهم من حصار تلاميذ (الإعدادى) للمدرسة، لكن هذه التفاصيل أيضا تأتى مضطربة ولا تستطيع معها أن تنفى أو تثبت وقوع الجريمة على النحو الذى ورد فى العنوان، والكلام فى معظمه ما هو إلا لف ودوران لإثبات شىء لا يطابق الحقيقة وهذا لا يعنى أبدا إنكارنا التام للواقعة ولكن للتوضيح فإنها ليست على الصورة التى حاولت أن تنقلها لنا الجريدة. (3) .. وإذا لم تكن الواقعة حدثت على الكيفية التى أوردها عنوان الجريدة، فما الذى حدث ؟! من الملابسات التى يمكن أن نستقيها من التقرير الخبرى أن بعض التلاميذ اندفعوا للاعتداء بالضرب على المُدرّسة، وأن تلاميذ آخرين زملاء لهم استنكروا الأمر بشدة حتى أنهم صرخوا يقولون: «الحقوا العيال بيغتصبوا المعلمة على سلالم المدرسة» وتلقفت الجريدة صراخ الصغار هذا لتصيغه فى عنوان التقرير وتطبخ قصتها المثيرة عن محاولة الاغتصاب.. وحرى بأطفال الإعدادى أن يصرخوا ويرددوا لفظ الاغتصاب الذى يحاصرهم ليل نهار فى الفضائيات والأفلام والصحافة الباحثة عن الإثارة، بل أن واقعة الاعتداء الجسدى على مُدرّسة رأيناها لأول مرة فى مسرحية مدرسة المشاغبين ولم نكن قد صادفناها بعد فى الواقع المعاش، وفى المسرحية التف الطلبة المنفلتون أخلاقيا (مرسى الزناتى وزملاؤه المشاغبون) حول مُدرّستهم وحاولوا نزع بلوزتها عنها وتعريتها، ونجحت المسرحية الكوميدية ودخلت بيوت مصر كلها تقريبا حيث أذيعت عشرات المرات، وتحولت المسرحية إلى فيلم سينمائى، وفى الفيلم تحول المشهد من محاولة نزع بلوزة المعلمة إلى محاولة لاغتصابها لكسر عينها من باب الانتقام منها بعد أن تسببت فى فصلهم من المدرسة (!!) (4) كانت تلك هى البداية والعامل الأساسى ضمن عوامل أخرى انتهت فى غضون سنوات إلى تهشيم سلطة المؤسسة التعليمية، وإسقاط المُدرس من عليائه، وما كان تمرد «السوبر طلبة» فى مدرسة المشاغبين إلا نموذجا حاكته طلبة المدارس الإعدادية والثانوية خلال حقبتى السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وكان هؤلاء الطلبة ضحية لظروف مجتمعية أطرتها دراما لم تخرج بالأساس من واقعنا ولكن تم استيراد نصها وتمصيره، فصورة الطلبة المشاغبين المنفلتين ظهرت أولا فى الفيلم البريطانى الشهير «To sir, with my LOVE» وجسّد فيه الممثل المشهور الأسود (سيدنى بواتيه) دور البطولة أو المدرس الذى يتمرد عليه الطلبة بسبب لونه، وفى النسخة الممصرة حوّل على سالم المدرس الذكر إلى مدرسة أنثى لمنح العمل مزيدًا من الإثارة، وتغيرت مع الوقت نماذج الإثارة الدرامية لتصل بنا إلى نماذج أخرى يحاكيها تلاميذ وطلاب العشوائيات، لعل أبرز هذه النماذج الدرامية فى السنوات القليلة الفائتة شخصيات البطل فى أفلام (عبده موتة) و(الألمانى) و(القشاش) وهى لا شك نماذج فجة ومُبالغ فيها لبشر يعيشون حياة خطرة فى عشوائيات أشبه بمنطقة «الكُنيّسة» التى ينتمى إليها تلاميذ واقعة الاعتداء على المُدرّسة، وهؤلاء التلاميذ لاشك ضحايا مثل ملايين غيرهم يعيشون فى مصر يربيهم ويستلهمون ثقافتهم من البيئة التى يعيشون فيها إضافة إلى إعلام الفضائيات التى تتعرض بشىء من الانفلات وانعدام المسئولية لموضوعات زنا المحارم والتحرش الجنسى والاغتصاب والجن والعفاريت وباقى الجرائم الجنائية، ناهيك عن الإلحاد أو التعرض للدين بشىء من الخفة والاستهتار، وفى جانب آخر هناك دراما السُبكى ومسلسلات الفضائيات التى تتصف بالوقاحة وتعمل على خلق نماذج المحاكاة التى تحدثنا عنها سابقا، وتكتمل الدائرة بالصحافة التى لا يهمها إلا زيادة التوزيع لتصل إلى أكبر عدد من القراء لتصبح أداة تأثير على الرأى العام وسلاحا يستخدمه صاحب الجريدة من رجال الأعمال للتخديم على مصالحه ومحاربة خصومه.