فى اللقاءات التى أجراها الرئيس السيسى فى كل من قبرص وإسبانيا، وفى البيانات الصادرة عن الاجتماعات الرسمية الثلاثية مثل إعلان نيقوسيا الصادر بعد الاجتماع الثلاثى الذى ضم السيسى ورئيسى قبرص واليونان، كان لمواجهة ظاهرة الإرهاب البغيضة نصيب كبير من الاهتمام، ومن التأكيد على ضرورة مواجهته والتعاون بين الدول من أجل دحر جذوره الفكرية والتمويلية وتنظيماته العنيفة. ولما كان البيان صادرًا عن قادة دول، فإن المعنى المباشر هنا هو أن الدولة هى المعنية أساسا بالمواجهة، وهى المعنية باتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية والمالية والدعائية الفردية أو الجماعية للقضاء على هذه الظاهرة البغيضة، ومعنية أيضا بالتعاون مع الدول الأخرى خاصة الصديقة فى اتخاذ كل أشكال التعاون المعلوماتى والاستخباراتى والعسكرى والأمنى لوقف انتقال الظاهرة الإرهابية وتمددها من مجتمع إلى آخر ومن بلد إلى آخر. وحين نتحدث عن تعاون دولى بأية صورة كانت فنحن هنا نركز على دور الدولة وليس أى طرف آخر. وحتى فى المطالبة بأن تشارك تنظيمات المجتمع المدنى والإعلام فى مواجهة ظاهرة الإرهاب والعنف وتنظيمات التكفير، فالأمر كله يكون تحت مظلة الدولة وليس خارجها، وتحت مظلة تكامل الجهود الرسمية والشعبية لمحاصرة منابع الإرهاب الفكرية والدعائية والسياسية. وحين يحدث مثل هذا التكامل بين الأداء الرسمى والأداء المجتمعى، فإنه يحدث فى الأمور التى لا تؤثر على كيان الدولة وعلى حقوقها الحصرية فى استخدام العنف المقنن والمنظم وفقا للدستور والقانون. وثمة مجالات أخرى لمواجهة الإرهاب خاصة فى مجال منع التمويل وتجفيف المنابع وهى ذات طابع فنى لا تقوم به سوى الأجهزة الفنية المتخصصة، مثل تعقب انتقال الأموال بين الأشخاص والمؤسسات والجماعات الموصومة بالإرهاب أو المشتبه فى كونها تتعاون مع مثل تلك التنظيمات العنيفة، فهو أمر مقصور على البنك المركزى وأجهزة المعلومات الرسمية. وهو ما يفسر أن هذا المجال الفنى والقانونى المتخصص فى المواجهة لا تشارك فيه تنظيمات مجتمع مدنى أو أفراد نظرا لأنهم غير مخولين بالحصول على معلومات تصنَّف بأنها سرية ويقتصر تداولها على المؤسسات المختصة. واذا كان أمر مثل تعقب أموال التنظيمات الإرهابية يقتصر على مؤسسات متخصصة، فمن باب أولى أن كل ما يتعلق باستخدام العنف المقنن لمواجهة أعضاء الجماعات الإرهابية يجب أن يكون فى أيدى الدولة وأجهزتها المعنية قصرًا وحصرًا. ذلك أن دخول الأفراد فى هذا المجال ستكون له نتائج كارثية بكل المقاييس، فإذا سمحت الدولة بمثل هذا الدور الفردى أو القبلى أو المناطقى، فهذا معناه ببساطة أن هذه الدولة تقر علانية بأنها ليست قادرة على أن تقوم بدورها الطبيعى والذى تتفرد به وهو حماية كافة المواطنين والمقيمين على أراضيها، وهو ما يمثل رسالة للجميع فى الداخل وفى الخارج بأن هذه الدولة فى طور الفشل وفى طريق التفكك المجتمعى. إن قيام مجموعات من المواطنين فى بلد ما بإعلان تنظيمهم الذاتى لاستخدام العنف ضد أية مجموعة أخرى، حتى ولو كانت إرهابية فهذا معناه أن هناك من يشارك الدولة دورها الخاص بها، وبالتالى ينتقص من هذا الدور. والمسألة هنا لا تتوقف عند لحظة المواجهة بل تتعدى ذلك إلى ما بعد إنجاز المهمة، وإذا تصورنا أنه تحقق إنجاز ما، فمن الطبيعى آنذاك أن تطالب هذه المجموعات الطوعية ذات الطبيعة السرية بمعاملة خاصة وامتيازات على حساب القانون ومؤسسات الدولة بأسرها. وهنا ستُفتح أبواب جهنم على الجميع، فقد يتصور البعض أن الحصول على امتيازات معينة لا يتطلب سوى إعلان تنظيم طوعى سرى يستخدم العنف إذا لم يحصل على ما يراه حقا خاصا به، وبالتالى تُفتح طاقة جهنم بكل معنى الكلمة. هذه المقدمة الطويلة مستقاة من خبرة مؤلمة تعيشها مجتمعات وبلدان قريبة منا، كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، يمكن تلخيصها فى عبارة موجزة وهى أن الدولة الطبيعية لا شريك لها فى استخدام العنف والسلاح، وإن شاركها أحد فلم تعد دولة ولا يحزنون. وقد يرى البعض أن جماعات الصحوة القبلية فى العراق قد مثلت نموذجا فى دحر تنظيمات مثل القاعدة، وأن المقاومة الشعبية الراهنة والتى تمولها الحكومة العراقية ظاهريا، وتشرف إيران فعليا على كل كبيرة وصغيرة فيها، تقوم بدور مهم فى دعم الجيش العراقى لمواجهة تنظيم داعش الإرهابى، وأنه لا مانع من أن تكون لدى مصر تجربة مماثلة فى سيناء اعتمادا على أبناء قبائلها الأقوياء. وهنا نحذر بصوت عال ونقول إن مثل هذه المشابهة غير صحيحة بالمرة، فلا الجيش المصرى هو الجيش العراقى، ولا المواجهة التى تجرى هناك فى العراق هى نفسها من حيث الامتداد الجغرافى وإمكانات التنظيم الإرهابى، ولا مؤسسات الدولة المصرية فى مثل وضع المؤسسات العراقية التى تقوم على المحاصصة الطائفية البغيضة. رسالتنا واضحة لا تحتمل اللبس، أن المواجهة فى سيناء للمجموعات الإرهابية أيا كان اسمها وحجمها فهى مسئولية خالصة للدولة مائة فى المائة. و لا يمثل الأمر أى تشكيك فى نوايا قبائل وعشائر «الترابين» وشبابها الذين قرروا من تلقاء أنفسهم اتخاذ إجراءات ذات طبيعة عنيفة وأقرب إلى أن تكون عسكرية لمواجهة جماعة بيت المقدس الإرهابية وقتل أعضائها وهدم مخابئهم، بعد أن تجرأت هذه الجماعة أكثر من مرة وقتلت وخطفت بعض أبناء القبيلة، وفجرت مبانى ومنشآت سكنية تابعة لأبناء «الترابين»، وسعت إلى الاستحواذ على مناطق تابعة لأبناء القبيلة رغما عن إرادتهم. ثم تطور الأمر كما ظهر فى البيان الثالث فى دعوة القبائل الأخرى فى أن تتخذ إجراءات قبلية عرفية لنزع غطاء القبيلة عن أبنائها الذين ينتمون إلى جماعة بيت المقدس الإرهابية، وأن تتطهر كل قبيلة من أبنائها الذين لا يريدون أن يعودوا إلى رشدهم وأن يلتزموا بتعليمات عواقل وشيوخ القبيلة بالابتعاد عن الجماعات الإرهابية، وإلا صار مصير هؤلاء الرافضين مصيرا أسود يتمثل فى تطبيق ما يعرف بعقوبة «التشميس»، أى يعامل كفرد معزول لا حامى له ويقتل كالفأر ولا دية له حسب تعبيرات البيان. والسؤال هنا ماذا إذا لم تقم قبيلة أخرى أو أكثر من قبائل سيناء مثل السواركة والرميلات والمساعيد والصوالحة والحيطان أو أية قبيلة أخرى أو أحد فروعها بالاستجابة إلى هذه الدعوة؟ نحن أمام مسعى يبدو شكلا لمواجهة تمرد بعض أبناء القبائل على الدولة المصرية وعلى جيشها من خلال عضوية جماعة إرهابية، ولكنه فى الجوهر يفتح أبواب المواجهة بين بعض القبائل وبعضها، وهنا يكمن الخطر الأكبر فى أن تتحول سيناء إلى ساحة مواجهة قبلية تحددها وتنظمها أعراف قبلية، وبذلك يتحقق هدف الجماعات الإرهابية فى كسر وتحطيم وحدة أبناء سيناء، وبدلا من أن تكون الدولة وأجهزتها المعنية فى حال تركيز لمواجهة تنظيمات الإرهاب سيكون عليها عبء آخر وهو منع المواجهات القبلية، وبالتالى يتشتت الجهد وبما يضيف بطريق غير مباشر قوة غير مقصودة لتنظيمات الإرهاب. و لا أتصور أن هناك أى عاقل فى مصر يمكنه أن يؤيد أو يدافع عن مثل هذا الاحتمال الخطير بكل المقاييس. ان تأمل المعانى الكامنة فى البيان الثالث لشباب قبيلة «الترابين»، يدفع بنا إلى تصور أن كثيرا من شيوخ وعواقل كل قبيلة يعرفون عن ظهر قلب من هم العناصر من أبناء القبيلة المنضمين للإرهابيين ومن هم البعيدون عن هذا الشر المستطير، وأنهم يعرفون أين يختبئون وأين يتحركون، ولديهم معلومات مفصلة عن خريطة الجماعات الإرهابية وعلاقاتها سواء فى داخل سيناء أو خارجها، كما يعرفون من يمول من. ولكنهم لم يقوموا بما يجب أن يقوموا به من جهد كاف لوقف هذه المهزلة. وإذا كان الأمر كذلك فمن الأكثر أمنا للجميع هو أن يتم تسليم هذه المعلومات المفصلة إلى الجهات المعنية فى الجيش أو فى الشرطة، على أن تتولى هذه الأجهزة التعامل مع هذه المعلومات وفقا لاستراتيجية المواجهة التى أقرتها الدولة. وقد يقول قائل إن بعض أبناء القبائل الذين تعاونوا بالمعلومات مع الشرطة أو الجيش قتلتهم جماعات الإرهاب ومثَّلت بهم ولطخت سمعة قبيلتهم الأكبر، وبالتالى فهو أسلوب ينطوى على مخاطر. وهو أمر صحيح مادام مد الجيش والشرطة بالمعلومات يتم باعتباره قرارًا شخصيًا لصاحبه وبعيدا عن دعم ومساندة العشيرة أو القبيلة، ولكنه بالقطع سيكون أكثر تأثيرا إذا ما كان التعاون المعلوماتى هو قرار القبيلة كلها، حفظا لسمعتها وسمعة أبنائها وحفاظا على حياة كل من فيها، وإذا كان أيضا مشفوعا بإجراءات جماعية قوامها التخلى التام عن كل شخص يُعرف عنه انتماؤه لتنظيمات الإرهاب. مصر يا سادة لها جيش كبير وعظيم، له تقاليده فى حماية مصر والمصريين معا، وإذا كان البعض يرى أن حسم المواجهة مع تنظيمات الإرهاب التى ترعرعت فى سيناء إبان حكم جماعة الإخوان الإرهابية قد تأخر كثيرا رغم كل ما تم بذله من جهد وتضحيات، وبالتالى يسمح لنفسه أن يدعم دورا عسكريا خاصا للقبائل فى مواجهة الإرهابيين، وهى المشمولة بحماية الجيش ومؤسسات الدولة، فهو يخلط الأمور ويضرب بالأولويات عرض الحائط ويتجاوز الطبيعة الخاصة لمواجهة الإرهاب كأخطر ظاهرة تواجه الدولة المدنية فى عالمنا المعاصر، وتتطلب بعضا من الصبر وتركيزا فى الأدوار وشمولا فى أدوات المواجهة ومجالاتها بشرط أن تكون تحت مظلة الدولة وليس خارجها.