وجوه حزينة.. وعيون باكية.. لكنها ممزوجة بالعزة والكرامة.. كان هذا حال أهالى قرية العور التابعة لمركز سمالوط بالمنيا الذين فقدوا 13 من أبنائهم العاملين فى ليبيا فى مجزرة بشرية بشعة ارتكبها تنظيم داعش الإرهابى.. الصورة الحزينة لم تختلف فى قرى متلاصقة بالمركز ذاته فقدت 8 آخرين وهى سمسون والسوبى ومنشاه منقطين ودفش والجبالى والقطوشه بجانب شهيد آخر بقرية منبال بمركز مطاى. وقبل أن تجف دموع المصريين كافة حزنا على فراق فلذات أكبادهم بعد الفيديو المرعب الذى أذيع مساء الأحد الماضى حتى ثأر لهم جيش مصر العظيم بعد ساعات فى فجر يوم الاثنين بدك حصون التنظيم البربرى فى ضربة جوية أثلجت صدر كل مصرى وأكدت أن خير أجناد الأرض سيظلون دائما درعا يحمى ويصون أمن مصر وسيفا يبتر الإرهاب والتطرف. كانت دقائق معدودة كافية للتجول فى القرية الصغيرة الفقيرة، الكل فى حالة حداد المسلم قبل القبطى، فلا فرق بينهم كما يقول محمود سلام موظف حكومى: «وتربينا على كل حب ومودة لم نعرف أية فرقة، ولم يشتتنا يوما أى خلاف بسبب الدين، لذا كانت فجيعتنا كبيرة بمقتل أبناء جيراننا وأصدقائنا الأقباط فقد عشنا أياما من الرعب بعد نبأ اختطافهم ولم نصدق مشاهد ذبحهم، وبدون شك الإسلام براء من هذه الجريمة النكراء لأن من إرتكبها لا دين له». وأضاف سلام أن قرية العور فقيرة جدا لذا رحل أغلب شبابها للعمل فى ليبيا، مشيرا إلى أن عددهم يصل إلى نحو 2000، منهم من تمكن من الهرب وعاد إلى أسرته، ولكن لا يزال هناك الكثير من الشباب عاجزًا عن العودة بسبب الظروف الأمنية الصعبة فى أغلب مدن ليبيا. على بعد خطوات من منزل محمود سلام كان يعلو نحيب سمير مجلى فى منزله وبصوت تقطعه الدموع قال: «إبنى جرجس كان فلاحا ولكنه عندما ذهب إلى ليبيا عمل فى أعمال المعمار والبناء ، وكان يرسل لى مبلغا شهريا للإنفاق على أشقائه لأننى مريض ولا أعمل، ووالدته قعيدة. «وأضاف أن صورة ذبح ابنه لاتفارقه، مؤكدا أن القتلة ليسوا مسلمين ولا مسيحيين لأنهم لا يعرفون الله. وأعرب عن فخره بالضربات الجوية التى شنتها القوات المسلحة على معاقل داعش، مطالبا بالمزيد وقتل أعضاء هذا التنظيم الإرهابى وإبادتهم نهائيا حتى يشفى غليل صدور أهالى الضحايا. ووسط الصمت المطبق المغلف بالألم كان الجميع يتحدث عن فجيعة إسطفانوس داود الذى فقد نجليه بيشوى 25 سنة وصموئيل 22 سنة اللذين قررا السفر معا إلى ليبيا للعمل فى مجال البناء والمعمار لكنهما لقيا نهاية مأساوية، ورفض الأب الحديث بينما كان الحزن الذى ينطق فى عيونه كافيا ليجسد وجع كبير وألم يصعب وصفه. قال بشير إسطفانوس، فلاح، الشقيق الأكبر لكل من بيشوى وصموئيل: «أصرا شقيقاى على مساعدة أبيهما تقديرا لظروفه الصعبة، وبعد رحلة من التعب والجهد قررا العودة للزواج خصوصا انهما تعرضا للاختطاف من قبل ولكنهما فارقا الحياة ليتركا لنا حسرة موتهما وبطريقة أصابتنا جميعا بطعنة كبيرة لولا رد الشرف والاعتبار بالضربة الجوية لقواتنا الباسلة التى دمرت فيها مخازن أسلحة ومعسكرات لتنظيم داعش الإرهابى». وفى الشارع المجارو لمنزل إسطفانوس يقع منزل هانى عبد المسيح أحد الضحايا وهو متزوج ويعول 4 أبناء هم مارينا ورفقة وفيولا وبخوميوس، ووالداه يسكنان معه وله 4 أشقاء هم عيد وعياد وأنوب وعيسى، ويقيمون فى منزل واحد. وعلى بعد أمتار يقع منزل الشاب أبانوب عياد عطا الذى لقى حتفه فى الحادث ذاته، بينما كان المصاب جللا لدى شكرى يونان الذى فقد 4 ضحايا فى الحادث ويعيش حالة حزن كبيرة. وقال ملاك ناجى، شقيق أحد الضحايا إن أهالى الضحايا فى حالة كارثية ونفسية صعبة للغاية، وأصيب عدد كبير بحالات انهيار عصبى، وتم نقل 8 حالات منهم إلى مستشفى سمالوط العام مصابين بفقدان النطق والإغماء بعد تلقيهم النبأ الحزين. وفى منزل من الطوب اللبن تسكن أسرة ماجد سليمان شحاتة الذى ترك ثلاثة أولاد ويعول والدته المسنة، وقال شقيقه عماد: «الفقر دفع شقيقى للسفر إلى ليبيا بحثا عن لقمة العيش وتوفير نفقات تعليم أبنائه الثلاثة ومصاريف والدته المسنة ومساعدة أشقائه». فيما اعتصر الحزن أسرة « لوقا» الذى سافر إلى ليبيا منذ عام ونصف العام بعد زواجه سعيًا وراء لقمة العيش ولم يكن يعلم أن زوجته حامل، ولم يشاهد ابنته، وهرب تواضروس يوسف تواضروس، 43 سنة، من الفقر وتوفير حياة كريمة لأبنائه الثلاثة شنودة وإنجى ويوسف، وأشقائه الستة وجميعهم يقيمون فى منزل واحد. وأكد فايز عزيز، والد الضحية مينا، أن ظروف الحياه الصعبة أجبرت نجله على السفر إلى ليبيا، مشيرا إلى أن ابنه حضر إلى القرية قبل عام واحد لإتمام زواجه، ورزقه الله بمريم، 9 أشهر، ولم يرها حتى رحيله. ودفع الحمل الثقيل والمسئولية الكبيرة ملاك إبراهيم، 26 سنة إلى السفر إلى ليبيا حتى يتمكن من تجهيز شقيقاته الثلاث للزواج ورعاية والديه، وهو متزوج ولديه طفل. أما كرولس بشره، 23 سنة، أعزب يعول والديه وله 5 أشقاء هم شنودة ومينا وبشوى ورعوز، ونيسوم. وفى زيارته لايبارشية سمالوط لتقديم التعزية إلى الأنبا بفنوتيوس وأسر الشهداء، قدم إبراهيم محلب رئيس الوزراء تصريحا صادرا من رئاسة الجمهورية ببناء كنيسة على اسم الشهداء على أن تتحمل الدولة تكلفة البناء، دون أن يذكر موقعها. واعتبرت الكنيسة أن هذه الخطوة «لفتة تاريخية وتقدير من الدولة لشهداء الوطن»، مشيرا إلى أن محلب استقبل أهالى الشهداء بمقر مجلس الوزراء وقرر إصدار معاش استثنائى لكل أسرة وكذلك منحهم حق التمتع بالتأمين الصحى». وتقع قرية «العور» على بعد 400 كم جنوبالقاهرة، وتفتقر لأبسط وسائل الحياة وسبل المعيشة الحديثة، والخدمات معدومة، وتبعد نحو 10 كم فقط عن مركز سمالوط، و45 كم عن مدينة المنيا، يقطنها 500 أسرة تضم نحو 2500 نسمة، نصفهم من المسلمين، والنصف الآخر من المسيحيين، لكنها لم تعرف مشاجرة أو نزاعا طائفيا على مدار تاريخها. تعانى القرية من مشكلات عدة، أهمها تهالك الوحدة الصحية، وسوء شبكة الطرق، وعدم وجود صرف صحى، ومنازلها تهددها المياه الجوفية، ومياه الشرب مختلطة بمياه الصرف، إضافة لتفشى الأمراض بين الأهالى، على رأسها انتشار فيروس الكبد الوبائى والفشل الكلوى.