تهتم كافة دول العالم برموزها الذين صنعوا التاريخ.. ووضعوا علامات بارزة على طريق التقدم الإنسانى.. وتضع الدول الدراسات الكاملة حول تفاصيل حياة تلك الشخصيات.. لتعيد إلى الأذهان أمجادهم.. وتضع الأجيال الجديدة أمام إبداعاتهم لكى يكونوا القدوة والمثل، فتبدأ بالمكان الذى ولدوا فيه لأنه الوثيقة الحية، التى تعطى الروح للوثيقة الرسمية الورقية.. كل هذا يحدث فى كافة دول العالم.. إلا فى مصر الحديثة التى خاصمت التاريخ. وللتدليل على تلك الحقيقة تستعرض «أكتوبر» فى سطور تحقيقها التالى ما فعلته يد الإهمال بمنازل عدد من العظماء فى تاريخ مصر، وبينهم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والشاعر بيرم التونسى، والموسيقار خالد الذكر سيد درويش، وجميعهم فى الإسكندرية. والبداية فى منزل جمال عبد الناصر: فيقول د.خالد هيبة أستاذ مساعد بهندسة الأزهر ومؤلف كتاب الخطط السكندرية «صفحات من تاريخ الإسكندرية العمرانى والحضرى من العصر الحديث، ولد الزعيم الراحل فى 4 شارع القنواتى بباكوس حى الرمل فى 15 يناير 1918، هذا المنزل شاهد على طفولة الزعيم الذى استطاع لأول مرة فى العصر الحديث توحيد الأمة العربية من الخليج إلى المحيط.. كان والده يعمل فى تلك الفترة بمصلحة البريد وكان يتنقل من مكتب بريد إلى مكتب آخر ليستقر به المقام فى مكتب بريد «باكوس» لتستقر معه أسرته بجواره فى عمله.. والمنزل منذ وفاة الرئيس الراحل فى 28 سبتمبر 1970.. يخضع لقانون الآثار حاولت محافظة الإسكندرية تحويله إلى متحف فأسندت الأمر لهيئة تنشيط السياحة التى حصلت على بعض الاعتمادات من وزارة الثقافة.. ومع ذلك تدهورت حالته حيث إن القدرات الفنية لهيئة تنشيط السياحة بالإسكندرية عاجزة عن إدارة هذا الأثر وتسويقه.. رغم أن هناك تهافتا من وكالات الأنباء ومحطات التليفزيون العالمية لتصوير المنزل إلا أن هذه الطلبات واجهتها عقبات عديدة.. حتى إن منصب أمين المتحف الذى كان يتعين وجوده ليشرح للناس تاريخ هذا المنزل وعلامته بالحى غير متوافرة. وأضاف يوجد حارس أمن وهو غير موجود نهائى.. وقام الأهالى المجاورون للمنزل بإنشاء باب حديد له.. لأنه تحول إلى مأوى للمدمنين يقومون فيه ليلًا بتدخين المخدرات وغيرها من الأعمال المنافية للقانون.. الأغرب أن هذا المنزل منذ تركه الحاج عبد الناصر حسين.. -والد الزعيم- لم يقم بزيارته أحد من أشقاء الرئيس أو أبنائه أو أبناء أخوته رغم أن فى الإسكندرية أبناء عز العرب والليثى وشوقى ورفيق وعادل.. والمنزل مع كل الأسف يطلق عليه «بيت الفئران» وهو ليس فى خريطة رئيس حى شرق الذى كان من المفروض أن يشرف على نظافته ولكنه لا كرامة لنبى فى وطنه وكأن مقصودًا أن نحتفل بميلاد ووفاة الزعيم فى صمت أو كأن هذا المكان سقط سهوًا.. شاعر الشعب كرموه بإزالة منزله وكانت محطة أكتوبر الثانية فى منزل الشاعر الراحل بيرم التونسى، الذى يقول عنه المستشار محمود بيرم نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية بالإسكندرية وحفيد شاعر الشعب محمود بيرم التونسى.. منذ اللحظة التى قدمت فيها أسرة مصطفى بيرم.. والد الشاعر الكبير من تونس فى أربعينيات القرن التاسع عشر بنت بيتًا لها فى حى السيالة بمنطقة الأنفوشى بالإسكندرية التابع لحى الجمرك الآن وبالتحديد فى شارع خليل عجمى.. وكان المنزل مكونًا من ثلاثة طوابق تقريبًا وقد باعته عائلته منذ زمن طويل وفى هذا المنزل ولد شاعر الشعب محمود بيرم فى 4 مارس عام 1893 ورغم أنه ولد فى هذا المنزل باعتباره منزل العائلة إلا أن شهادة ميلاده قيدت فى مكتب بلدية حى الأزاريطة ولذلك شهادة ميلاده جاء فيها أن واقعة الميلاد فى «حى المزار» اختصار الكلمة الأزاريطة.. وفى هذا المنزل وفى هذا المكان المواجه لبحر الأنفوشى وصناعة السفن والصيادين ارتبط وجدان شاعر الشعب بكل ما هو وطنى وشعبى وإلى الخلف من المنزل وعلى بعد خطوات يقع ميدان المساحة حيث سيدى ابى العباسى المرسى.. وما من أحد من أبناء حى السيالة إلا تشبع بروحانيات الصوفية.. ومشايخ سيدى أبى العباس المرسى والأباصيرى.. وأزعم أن كثيرًا من الأناشيد والأهازيج التى كان يرددها المنشدون تسللت إلى عقل وذاكرة شاعر الشعب وترجمها فى أشكاله الشعرية المختلفة.. وأضاف: أما المنزل الذى نفى منه فهو يقع مباشرة خلف مسجد سيدى أبى العباس المرسى.. فبعد أن تزوج بيرم استأجر شقة فى هذا المنزل المطل على مسجد سيدى ابى العباس المرسى وسيدى البوصيرى ويوم 25 أغسطس عام 1920 وكان الوقت فى وقفة عيد الأضحى وكان قد نشر قصيدته الشهيرة «القرع السلطانى» والتى يسخر فيها من السلطان فؤاد والإنجليز.. فتوافقت إرادة السلطان فؤاد والإنجليز على نفيه.. فتوجه إليه باعتباره مشمولًا بالحماية الفرنسية عدد من عساكر «كراكول الأجانب» نقطة شريف حاليًا.. وكان من بينهم عساكر استراليون من بقايا الحرب العالمية الأولى وقبضوا عليه من هناك من هذا المنزل.. وتوجهوا به إلى قنصل فرنسا بالمنشية الذى حقق معه وأصدر قرارًا فوريًا بنفيه إلى تونس ذهابًا دون عودة.. وفيما يتعلق بهذا المنزل فإنه بعد الانفتاح الاقتصادى أراد الرئيس السادات إعادة تحقيق المنطقة التى يقع فيها ميدان المساجد تمهيدًا لإقامة احتفالية دينية تحت رعايته فصدر قرار جمهوريا عام 1976 بنزع ملكية هذه البيوت المحيطة بمسجد المرسى أبو العباس ومن بينها المنزل الذى كان يسكنه بيرم ونفى منه.. وقد قامت العائلة وقتها بالاتصال ومخاطبة عبد المنعم الصاوى وزير الثقافة فى ذلك الوقت للحفاظ على المنزل الذى نفى منه بيرم ولكن لم يلتفت أحد.. وتحول المكان إلى حديقة خلفية لمسجد أبى العباس المرسى تسكنها المراجيح وألعاب الأطفال!!. منزل نديم عشة للفراخ فى المنزل رقم 12 حارة عبد الواحد بكفر عشرى أسفل كوبرى التاريخ بحى مينا البصل بالإسكندرية مازال المنزل الذى ولد فيه خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم عام 1842 شاهدا على أننا شعب بلا ذاكرة. فالمنزل كما شاهدناه مهدما ومكتبته العامرة التى كانت موجودة فى هذا المنزل وكتبه التى كتبها «الاحتفاء فى الاختفاء» و«البديع فى مدح الشفيع» وفى «المترادفات» وكتاب «المسامير» ونماذج من جريدته الشهيرة التى كانت تنتظرها الناس «التنكيت والتبكيت» واللطائف المصورة و«المسلة التى كانت لا جريدة ولا مجلة» والمطبعة السرية التى كان يطبع فيها المنشورات ضد الاحتلال الإنجليزى والخديو توفيق.. باعتها أسرته بجنيهين لبائع «فول وفلافل». وعبد الله النديم هو عبد الله بن مصباح إبراهيم النديم أنشأ فى الإسكندرية الجمعية الخيرية الإسلامية وكتب مقالات كثيرة فى جريدتى المحروسة والعصر الجديد وجريدة اللطائف.. وكان الخطيب الرسمى للثورة العرابية وكان من المقربين من الخديو عباس الثانى.. ونفى للأستانة واصطدم بحاشية السلطان عبد الحميد وكان توأم جمال الدين الأفغانى الذى كان يوزع الثورة بيد والسعوط «النشوق» باليد الأخرى.. وكان يطلق عليه الأديب الأدباتى.. لأنه ألف أكثر من 4آلاف بيت شعر وروايتين.. وكانت كتاباته بمثابة منشورات سرية ثورية يتناقلها البسطاء والأحرار فى كل مصر.. وفى آخر أيامه فى حياته القصيرة التى كانت 54 عامًا كان يطلب من أصدقائه الذين كان يوزع عليهم كتبه أن يحرقوها لأنه وجد فيها هجاء كثيرا وتجريحا فى بعض الشخصيات.. ونفى إلى الأستانة بعد أن أرهق الإنجليز فى مصر عام 1893 وفى عام 1895 كان الخديو عباس الثانى يزور الأستانة فطلب منه أن يعود إلى مصر وبالفعل توسط له عند الباب العالى فى الأستانة وعاد وبعد أشهر مرض النديم وتراجعت صحته ونهش السل الرئوى صدره وأحس بدنو الأجل.. فأخبر أمه وأخاه فى مصر.. وتوفى وحيدًا عام 1856 دون أن يترك زوجة أو ولدا وأصبح مسقط رأسه مهملًا والمنزل الذى ولد فيه وهو قيمة وقامه أصبح الآن فى حالة يرثى له.. منزل فنان الشعب وعن منزل أسطورة الموسيقى وفنان الشعب سيد درويش يقول د.حسن البحر درويش أستاذ الهندسة البحرية بجامعة الإسكندرية كان والد فنان الشعب السيد درويش البحر هو المعلم درويش البحر صناعته نجار والدته هى ملوك بنت عيد جهة ميلاده هى حى كوم الدكة بالإسكندرية المنزل 112 حارة البوابة الشهيرة بحارة الحاج بدوى بشارع السوق الداية أو القابلة «فطومة الوردانية». ولد سيد درويش من أبوين فقيرين لكنه كان متميزا لديهما لأنه ذكر على ثلاث بنات وهى فريدة وستوتة وزينب.. نشأ سيد درويش موسيقيًا بالفطرة. وأحدث درويش ثورة فى الموسيقى العربية.. وكان يؤمن بأن الفنان رسالة يجب أن يؤديها وخدمة وطنية كبيرة لا يستطيع أن يقوم بها غيره فقد خلق مسرحًا وطنيًا.. ورغم وفاته فى 15 سبتمبر 1923 عن عمر يناهز 31 عامًا إلا أن هذه الفترة القصيرة كانت حافلة بالفن والموسيقى وخدمة الوطن. أضاف أن دول العالم تعترف وبالقامات ومسقط رأسها ولكن للأسف الشديد أن منزل سيد درويش أصبح انقاضا رغم وعود وعهود وزارات الثقافة المتعاقبة والمحافظين السابقين والحاليين على إقامة متحف مكان منزله الذى استولى عليه آخرون بوضع اليد. وأنا أرى أن هناك ثلاثة فنانين اضطهدوا من السلطة منذ أكثر من قرن، ولابد من مرحلة مصر الجديدة التى يرسخ لها الرئيس عبد الفتاح السيسى أن يعود لهم الاعتبار وهم بيرم التونسى وبديع خيرى وسيد درويش، لأنهم كانوا فى قلب قضايا الشعب المختلفة، ولأنهم عبروا عن عمق الانتماء الوطنى وعبروا عن فئات الشعب المختلفة.