بمجرد أن يهل علينا شهر نوفمبر ثم نظيره فبراير والحديث لا ينقطع عن تلك المناسبة المسماه «عيد الحب»، ليتبارى الجميع فى الأحاديث المرسلة والتعبيرات الجوفاء التى تذكرنا بأغانى بعض المناسبات التى تولد ميتة من فرط عدم صدقيتها. والواقع فإن الثقافة الأجنبية الوافدة قد جعلت لنفسها محطات تذكرنا بين الحين والآخر بهيمنة من نوع خاص التى قد تبدو سطحية النزعة إلا أن الواقع المرير لها يذكرنا بالمقولة الخالدة لابن خلدون فى مقدمته من أن «المغلوب كلف دائماً بتقليد الغالب». ولست هنا بصدد اجترار الخلفية التاريخية للعيد فى الغرب بعدما حفظناها عن ظهر قلب كما أن ما تحفل به الكتابات سنويًا عن دور الأخوين أمين – رحمهما الله - فى تمصير الفكرة يغنينا عن تكرار الحديث عن السبب الذى كان اجتماعيًا فى المقام الأول، فضلاً عن أن الفكرة كانت من الشواهد القليلة لممارسة الديمقراطية فى مجتمع الشمولية والفردية الحاكمة حيث تم الاستقرار على 4 نوفمبر من واقع استطلاع رأى القراء حيال الفكرة. والواقع فإن تناولنا لعيد الحب أو بالأحرى يوم الحب (الفالنتين) سوف يتم من خلال عدد من الوقفات عسانا نعيد المضمون لفاعليته بدلاً من سطحية التناول بقشور التعبير، لا سيما بعدما أفرغه أصحابه من مضمونه مثلما فعلوا بعيد الأم ليتحول فى المجتمع المادى إلى مناسبة ذات بعد تجارى بحكم وصول المبيعات المرتبطة بالمناسبة أحيانًا إلى قرابة المليار دولار فى حين بلغت لدينا حوالى 600 مليون جنيهًا حسبما تشير الإحصاءات. والواقع فإن الراصد لطبيعة المتبادلات فى هذا الصدد يجد أنها تعكس تطور المجتمعات فى الخارج بإيقاعاته السريعة ومدى التواؤم مع معطيات كل عصر وبما يكسبها بعدًا تاريخيًا يستحق وقفة، حيث الخطابات فالبطاقات فالهدايا العينية وانتهاءً بالرسائل الإلكترونية، مما يعمق مفهوم التغيير معطياً للعيد(!) شخصيته المستقلة، فى حين أننا نقلنا المناسبة دون إضفاء أية لمسة مصرية تجعل من تاريخها تذكرة بقيمة الحب الكبرى وليس مجرد استعراض موسمى لعدد من الهدايا حمراء اللون. بمعنى أن اختزال القضية فى العلاقات الثنائية تؤكد على سطحية التناول إذ أن الغرب إذا كان قد جعل من بين أهداف المناسبة السعى نحو إيجاد الوليف فما الضير لو كنا قد استثمرنا الأمر بمواجهة قضية العنوسة التى بدأت تتآكل مع تضخمها قيم الأسرة فى المجتمع المصرى. كما أنه إذا كان من المتعارف عليه فى أدبيات العشق ما يعرف بالتضحية من أجل الحبيب فلمَ لا نستنفر جهودنا فى هذا اليوم للبحث عن نماذج حية للتضحية الحقيقية فى المجتمع، فما زلت أذكر حالة الشاب الذى كان يعمل بإحدى مصانع المحلة الكبرى وضحى بحياته عندما ألقى بنفسه فى أتون النار ليغلق أحد المحابس التى كان استمرار نزفها كفيلاً بوقوع كارثة لم يعلم مداها إلا الستار - سبحانه و تعالى- ليلاقى ذويه الأمرين فى رحلة المعاش الشهيرة التى دائمًا ما تترك مرارة فى نفس الشرفاء الذين أعطوا للوطن حبًا وكرامة ولم يتنظروا مقابلاً. وكم تمنيت كذلك أن نلقى الضوء على نماذج فى حياتنا ضربوا أجمل أمثلة التضحية وعيًا بقيمة الحب الحقيقى وديمومته كبائع الصحف الذى كان ييسر قراءة ما لديه من مطبوعات للشباب مجانًا فى الإجازة الصيفية قبل إرسالها للمرتجعات أو من يتبرع بالدم أو غيرها من الأعضاء لضحايا حادث مريع أو لمعيل قدم للمجتمع نماذج مشرفة بعد تضحيات جمة والتى كان آخرها فى وسائل الإعلام تلك السيدة التى امتهنت مسح الأحذية غير مكتفية بالتقديم للمجتمع خمسة أبناء على أعلى مستوى تعليمى بل انتسبت هى نفسها للجامعة. والواقع فإن مثل هذه النماذج وغيرها كثير هى التى سوف تمكننا من تعميق مفهوم الحب والانتقال به من طور المراهقة العاطفية إلى مرحلة الرومانسية المتزنة التى تعلى من قيم المجتمع الحقيقية وتنتقل به من الخصوصية الفردية إلى المشاعر الجماعية، التى كاد تصحرها أن يوردنا موارد الجفاف العاطفى مع تزايد حدة الانكفاء على الذات لأسباب اجتماعية أو إلكترونية. ولعل اقتصار الأمر على البعد العاطفى السطحى هو ما جعل بعض الدول على المستوى الرسمى تتخذ منه موقفًا سياسيًا مثل السعودية بحكم تعارض مظاهره مع مفردات قيم الاعتقاد وإن اتسق مضمونه الوجدانى فى الحب مع مشاعر الإسلام، و كذا الهند التى ناصبت فيها بعض جماعات الهندوس العداء لمظاهر هذا اليوم واعتبرته حالة من الهرطقة العقيدية فى حين قبلته إيران على استحياء دون تشجيع رسمى. ومما لا شك فيه أن مثل هذه المناسبات يمكن أن نجعل منها وسائل لاستدعاء العديد من قيمنا المطموسة التى بهَتها قيم التناحر المادية ووسائلها اللاإنسانية، بيد أنه إلى جانب استدعاء نماذج الحب و التضحية من الذاكرة الوطنية فإن تضحيات شهداء الوطن تظل الأولى بالرعاية على المستوى العاطفى. بمعنى أننا لن نجادل كثيرًا فى قيمة ما قدمه هؤلاء الأبرار من تضحيات حبًا فى الوطن وإيمانًا به حتى لو كان الأمر مرتبطاً بواجب رسمى يستند على الطاعة المطلقة، حيث إن أهم أساس لنجاح التضحيات الوطنية ليس فقط الإيمان بها بل أيضًا محبة الوطن لدرجة العشق. بيد أن ما أعنيه هنا هو إقرار قيمة الحب ومظاهره فى المجتمع بين الأسرة المصرية الكبرى وأهالى الشهداء فى كل الأحداث والملمات الوطنية، إنه حب من نوع خاص وحالة مستدامة منه سوف تضفى على ذلك اليوم نكهة مصرية خالصة وتجعل منه حالة احتفالية دائمة مع التباين الزمنى لكل هيئة أو مؤسسة فى تقديم نماذج التواصل مع أهلينا من ذوى الشهداء. عندئذ سيكون لدينا ولأول مرة عيدًا قوميًا من نوع متفرد يجمع بين العام والخاص فى احتفالية مستدامة على مدار العام لسنا فيه بحاجة لإجازة رسمية لأننا سوف نكون قد منحنا به للعديد من المشاعر السلبية تأشيرة خروج بلا عودة.