حادثنى أحد قراء هذه المجلة معلقًا على موضوعى السابق (دعوة إلى القراءة) وبعد أن أبدى إعجابه سألنى: أصحيح يمكن للقارئ الذى يقرأ ربع ساعة فقط فى اليوم أن يقرأ عشرين كتابا فى العام؟. قلت له: بالتأكيد ياصديقى وهذا هو أدنى عدد يقرؤه.. ويمكن أن يزيد كلما زاد وقت القراءة. ثم سألنى: إذا كانت القراءة تغذى العقل كما نعرف.. فهل يمكن أن تخلق موهبة الكتابة والإبداع؟. قلت له: بالتأكيد..! ذكرنى هذا الحوار بالمبدع الكبير نجيب محفوظ وهو يحكى فى أحد أحاديثه ويجيب عن سؤال: كيف اكتشفت فى داخلك موهبة الكتابة؟. فروى قصة طريفة تقول: كنت ألعب عصر أحد الأيام مع رفاقى كرة القدم وأنا صغير.. وفيما بين الشوطين لاحظت أحد زملائى يتنحى جانبا ويخرج من سترته كتابا صغيرا ويستغرق فى قراءته.. ولفت نظرى هذا فاقتربت منه وسألته: ماذا تقرأ؟ قال: أقرأ مغامرات بن جونسون وبقى لى بعض الصفحات لأنتهى منها.. آه لو تقرأها يانجيب سوف تستمع كثيرًا بهذه المغامرة. وبالفعل.. انتهى صديقى من قراءة الكتاب ثم أعطاه لى بعد أن نقل إلى استمتاعه بالمغامرة التى تحتوى عليه.. فأسرعت عائدًا إلى البيت.. وبدأت أقرأ الكتاب فجذبنى.. وظللت أقرأ واقرأ حتى انتهيت منه فى ساعة متأخرة من الليل.. وأخذت هذه المغامرة تداعبنى فى أحلامى تلك الليلة.. فلما أصبحت أمسكت بالكتاب أتأمل حروفه ورسومه وغلافه ثم هاجمتنى فكرة مجنونة: لماذا لا أعيد كتابة هذه المغامرة فى كشكولى الخاص.. وبالفعل أحضرت كشكولاً وبدأت أعيد كتابة المغامرة بعد أن وضعت الأصل جانبى.. أخذت منى هذه المحاولة وقتًا طويلاً.. وسعدت بالانتهاء منها.. وأسرعت بالكشكول إلى أحد أصدقاء أبى وكان مهتما بالأدب.. فعرضت عليه كتابتى فأعجب بها وأخذ يشجعنى على الكتابة والإبداع.. ونصحنى بأن اقرأ كثيرًا فى الأدب العربى والأدب العالمى.. تلك كانت بداية هذا الأديب العالمى الحائز على جائزة نوبل فى الآداب والذى شرَّف مصر والعالم العربى بحصوله على هذه الجائزة. وتدلنا هذه القصة الطريفة على أن الموهبة يمكن أن تفجرها القراءة.. لأن القراءة تعنى تغذية العقل والوجدان معا.. وصقل الموهبة -إن وجدت- من الأمور المهمة لاستمرار هذه الموهبة.. وهى تماما مثل الماء الذى نروى به الزرع.. فإن لم نفعل ذلك مات النبات.. وماتت الزهور وجفت الأرض. وفى عالم المبدعين.. تختلف درجات الجودة الإبداعية باختلاف ثقافة المبدع وحجم موهبته وأسلوب صقلها.. ويبدو أن الموهبة وحدها لا تكفى لخلق مبدع جديد فكثيرا ما يظهر على الطفل فى سنوات عمره الأولى بوادر الموهبة الأدبية.. أو العلمية أو الفنية.. ثم سرعان ما تضيع هذه الموهبة لإهمال صاحبها - أو ولى أمر الطفل - وعدم صقلها بالقراءة وتحصيل المعرفة.. القراءة إذن يمكن أن تخلق موهبة وتشحذها، وتتفوق بها.. لأنها تعنى المعرفة الواسعة التى يتغذى بها عقل المبدع.. ويجعله قادرًا على التفرد بالرأى والرؤية معا فهو يهضم هذا كله ثم يخرجه مرة أخرى ممزوجًا بتجربته الخاصة.. فيصبح شعرا أو قصة أو مسرحا أو رسما أو موسيقى. وشجرة القراءة متعددة الغصون والثمار.. ويستطيع أى قارئ عادى أو قارئ مثقف أن يستظل بها ويجد ما يشبع رغبته وميوله. وحينما أنشئت المكتبة الأولى فى مصر القديمة لاستقبال القراء وضعت تحت حماية الآلهة وكتب على بابها (هنا غذاء النفوس وطب العقول)، وأتذكر ونحن تلاميذ فى مدارسنا أن حصة (المكتبة) كانت من أهم حصص الأسبوع التى ننتظرها لنسرع إلى مكتبة المدرسة ونقرأ ما فيها لكبار كتابنا وكتاب العالم.. قرأنا كتب طه حسين والعقاد وهيكل ويوسف السسباعى وإحسان عبد القدوس.. ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم ويحيى حقى وغيرهم.. وقرأنا عددًا كبيرًا من دواوين الشعر العربى وأمهات كتب التراث.. لنتعرف على عظمة الأجداد .. وقرأنا لشكسبير وتولستوى وهمنجواى وديستيوفسكى وغيرهم. وكان لنا مدرس لغة عربية بارع فى تربيته لنا فكان يحدثنا عن القراءة ويحثنا عليها ويعقد بيننا المنافسات التى تجعلنا نتسابق إلى التهام الكتب وتحصيل المعرفة.. وكان يحدد لكل منا يوما نتحدث فيه أمام زملائنا التلاميذ فى حصة (الخطابة) عن كتاب قرأناة.. ونتلقى الأسئلة حول هذا الكتاب وكم كانت فرحة التلميذ منا كبيرة حينما يجد نفسة واقفا مكان المدرس ليشرح الكتاب الذى قرأه.. والمدرس جالس بجانب زملائه التلاميذ ويشترك فى الحوار والمناقشة فتعلمنا ونحن صغار كيف نواجه المتلقى وتدربنا على فن الخطابة.. كل هذا نتيجة إقبالنا على القراءة بنهم. وأتذكر أيضا أننى كنت اكتب موضوعات التعبير وأذيلها ببعض أبيات من شعرى قائلا: كما قال الشاعر.. وكان المدرس سعيدا بهذا لكنه قال لى مرة: ألا تكتب اسم الشاعر الذى جئت بشعره؟. ولما علم أنه من تأليفى سعد أكثر وخصَّنى برعايته ونصائحه التى صقلت موهبتى. فعلنا ذلك فى شبابنا حينما لم تكن لدينا سوى مكتبة المدرسة نقرأ فيها ونجعلها مصدر معرفتنا الأول.. فما بالنا اليوم وقد تعددت وسائل القراءة ووجدنا الكتاب والصحيفة والمجلة والنت.. وغيرها من الوسائل العصرية التى تشجع علىالقراءة. بقى أن نقول إن الموهبة الحقة هى التى تعتمد على تحصيل مزيد من المعرفة ومزيد من المعلومات التى تصقل هذه الموهبة وتجعلها متميزة عن غيرها، ونرى أن مسئولية صقل موهبة الطفل تقع على عاتق الأسرة فى البداية. ثم على المدرسة، التى فقدت - للأسف - قدرتها على القيام بدورها فى تثقيف الطفل وتوجيهه وصقل موهبته، حتى يصبح عضوا نافعا فى مجتمع يتطلع إلى بناء مستقبل أفضل. يقول المرقش الأكبر سكنّ ببلدة وسكنُت أخرى وقُطعت المواثقٌ والعهودُ فما بالى أفى.. ويُخان عهدى