«كنا مجموعة من الهواة تمارس السلطة.. ومع ذلك كنا نتعلم باستمرار ولا نكابر فى ذلك.. لأن الأوضاع كانت تتغير من حولنا بسرعة بالغة وكم من مرة توجب علينا تعديل وتكييف سياساتنا لتلائمها.. ولقد حظيت بمساعدة عدة وزراء تميزوا بسعة الاطلاع والتحمس للأفكار الجديدة مع عدم الخضوع والاستسلام للمكاسب والغرور.. وكنت أتبادل الكتب والمقالات المهمة التى قرأناها.. كنا أغرارًا وجاهلين وسذجا، لكن أنقذنا حرصنا الدقيق على دراسة واختيار الأفكار قبل تطبيقها. لقد استطعنا أنا ورفاقى ترسيخ علاقة وطيدة جمعتنا تحت هذه الظروف الضاغطة وخلال الأزمات المتتابعة كان على كل منا أن يضع حياته عهدة فى أيدى زملائه تبادلنا الثقة فيما بيننا وعرفنا نقاط القوة والضعف لدينا وكنا نشير إليها دائمًا بلا خجل ولم نكن بحاجة لاستطلاعات فى الرأى لنعرف ما يريد منا الشعب أن نفعله وتمثلت مهمتنا فى جمع شتاته حولنا لتأييد ودعم ما فعلناه لتكون سنغافورة مجتمعا غير شيوعى وغير طائفى وقابل للحياة وقادر على البقاء». هذه هى اعترافات مؤسس سنغافورة الحديثة رئيس وزرائها المبدع «لى كوان يو» وهو يسرد قصة نجاحه وكيف تغلبت الإرادة الخالصة فى التفوق على العديد من المصاعب والمشاكل.. وكيف أن فريق العمل المتجانس من أهم مفاتيح النجاح.. فى بلد صغير متنوع الأعراق.. كان الاحتلال الانجليزى يتحكم فى مقدراته.. كان «لى كوان يو» وحيدا على طريق بناء الدولة.. فصنع لنفسه فريقا يثق فيه وكلهم يمتلكون الثقة فى أنفسهم.. وبدأت القصة بضرورة بناء جيش مستقل ينتمى إلى البلاد، ثم كانت النظرة إلى الاقتصاد.. ماذا يملكون؟.. وماذا يريدون؟.. وكيف يتحقق المراد بالموجود والمتاح؟.. وكان ضروريا تفعيل النقابات المهنية.. فهى جسر التواصل الشعبى مع الحكومة ولن يثق المواطن فى دولة يفتقد فيها العدالة الاجتماعية وليس الرعاية الاجتماعية فقط.. وماذا يكون التصرف مع قطاع شيوعى منتشر فى البلاد وله تأثيره.. هنا لا بد للوسطية أن تكون هى المنهج والدليل.. ومعها من الضرورى أن يتم اكتشاف العناصر والعقول الموهوبة.. وأن يتحدث الوطن كله لغة واحدة.. تتجاوز اللغات العديدة التى يتحدث بها الصينى والملايوى والأندونيسى والهندى وغيرها، ولن تستقيم الأمور بدون حكومة نظيفة اليد والقلب وأن تتحول سنغافورة إلى واحة خضراء وأن تلعب وسائل الإعلام دورها فى هذا الحشد. وهنا يكشف «لى كوان يو» عن نظرية قائد الأوركسترا فقد اختار مجموعة العمل من زملاء الدراسة فى انجلترا وكان ظهيرهم الشعبى نقابات العمال فى حزب العمل الشعبى الذى أسسه.. وكانت الرؤية واضحة والأهداف محددة.. وأهمها الرغبة فى الاستقلال بعيدًا عن الاحتلال الانجليزى، رغم أن هذا الممثل كان يمثل جانبا اقتصاديا مهما.. لكن الاستقلال أهم.. والخطر التالى يتمثل فى المد الشيوعى إلى جانب مجموعات متطرفة من الملايوى التى تنتمى إلى ماليزيا وقد كانت سنغافورة تابعة للاتحاد الماليزى بعد رحيل الانجليز.. حتى تم الانفصال وتحقق الاستقلال التام. ويتحدث «لى كوان يو» أو قائد الأوركسترا فيقول: لا يمكن لأى رئيس وزراء تحقيق النجاح بدون فريق عمل قادر وكفء إلى جانبه وليس من الضرورى أن يكون عازفا عظيما إلا أن عليه أن يعرف ما يكفى عن الآلات الموسيقية.. والكمان والشيلو والبيانو والناى والإيقاع. اختار «كوان» بدقة وزير المالية لأنه يفكر بطريقة غير تقليدية ويسعى إلى حل المشاكل العديدة بأساليب فيها خيال وابتكار ورؤية مرتبطة بالواقع.. كان يعرف إمكانيات الوزير وطبيعة عمله، ثم يمنحه حرية الحركة لكى ينطلق بدون قيود.. ولا يتدخل إلا عند الضرورة.. هو فقط يشير للعازف لكى لا يخرج عن اللحن الأصلى المكتوب على النوتة الموسيقية.. وعينه كقائد على جميع العازفين حتى ينسجم اللحن العام. كان قائد الأوركسترا يدرك أن الخطوة الأولى لنهضة البلاد لا يمكن أن تتم بدون بنية أساسية من شبكة طرق ومطارات وكهرباء ومياه وغاز. وهنا يمكن أن ننظر إلى تجربة سنغافورة من زاوية أخرى ونلخصها بمفهوم مختلف.. فقد كانت أشبه بشقة تسلمها صاحبها على المحارة أو على الطوب الأحمر أو الجدران الأصلية.. لكنه لم يتعامل معها مثل غيرها من الشقق الأخرى.. نظر إليها وفقا لإمكانته واحتياجاته وبما يناسبه.. استغنى عن غرفة وقام بتوسيع الحمام مع المطبخ.. وابتكر من مواد الطلاء والتأسيس ما يوفر فى السعر.. ويعطى للشقة تميزها.. و«كوان» فى مستهل رحلته مع صعود بلاده من قاع الدنيا إلى الأعالى فى مشوار استغرق 35 عامًا كان شعاره (نحن لا نبحث فقط عن النجاح.. لكن هدفنا أن نكون دائمًا وأبدًا دولة استثنائية فى كل شىء) وقد كانت وها هى النقطة التى لا تكاد تراها على خريطة العالم قد أصبحت نقطة مضيئة ولامعة جاذبة للأنظار جديرة بالاحترام.. خلقت هذه القصة المبهرة قائدًا لكنه عرف يختار العازفين ويوفر لهم الآلات الجيدة والظروف المناسبة لكى ترتقى «دولة المحارة».. إلى «الدولة المنارة».. فهى حكاية جديرة بأن يعرفها الصغير والكبير.. فهى تصلح للفرد وللشعوب، لأنها تجربة إنسانية عظيمة.. سلاحها الأول الإخلاص والرغبة فى التميز وقانونها البقاء للأصلح.. ونشيدها القومى العلم والمعرفة.. وميزانها العدل وشعارها التجميع لا التفريق.. بالمساواة والحزم، وقد كان «لى» يسأل بعض أهل الخبرة من الأكاديميين فلا يجد لديهم إلا نظريات جامدة وقوالب ثابتة فينصرف عنها إلى ما يليق ببلده وما يتفق مع متطلباته وظروفه.. فهؤلاء فى أغلبهم لا يقولون كلاما مقدسا.. إنهم بشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وأنت لست بأقل منهم إن لم تتفوق عليهم.. لأنك قادر على الابتكار والإبداع.. وعلى طريقة كرة القدم أنت تحتاج إلى لاعب ماهر يستطيع بأقل جهد أن يأخذك إلى المرمى.. أكثر من احتياجك إلى لاعب صاحب جهد كبير وحرفته زائدة.. لكنه يريد أن يلعب لحسابه الشخصى وفى هذا التوقيت الذى نشعر فيه أن مصرنا الحبيبة على «المحارة» نحن نحتاج إلى «المهارة» أكثر من الشطارة.. ونحتاج إلى العلم أكثر من «الفهلوة».. ونحتاج إلى معرفة ما لدينا وما عند غيرنا وقبل كل هذا نحتاج إلى معرفة أنفسنا!