بدأ مجمع اللغة العربية دورته الثمانين من عمره المديد كما اعتاد خلال السنوات الأخيرة السابقة فى هدوء تام وصمت كامل، ربما بحكم عوامل أخرى بعيدة عنه، مع انتباه إلى إنه ليس كل الهدوء اتزانًا ولا كل الصمت حكمة.. وإنما قد يحمل ويخفى أغراضا أخرى، الله أعلم بها.. مجمع الخالدين الذى بدأ رسميًا مع الملك فؤاد عام 1934 من أجل تيسير اللغة العربية وقواعدها وحفظ لسانها وهويتها من الضياع أو العبث بها ومحاولات الإنجليز وقتها لجعل اللهجة المصرية تحل محل اللغة العربية.. وفى أول جلسة انعقاد له وقتها أصدر عشرين قرارًا كان من بينها إباحة التعريب.. فما حال العربية وما حال التعريب بين الجيلين التى فصل بينهما ثمانون عامًا.. ولن نقول ما حال المجمع نفسه. اعتاد مجمع اللغة العربية منذ إنشاءه على إقامة مؤتمره السنوى الذى يستمر لمدة أسبوعين فى مثل هذا الوقت من العام.. وقد اختار قضية التعريب كموضوع أساسى للمؤتمر وحدد محاوره الرئيسة فى حاجتنا للتعريب، والتعريب كقضية قومية وتعريب العلوم ومشكلات التعريب، والتعريب فى التعليم الجامعى وتوحيد المصطلح العلمى وغيرها من المحاور المهمة.. وقد بدأ د.حسن الشافعى رئيس المجمع منذ أوائل عام 2012 والأستاذ غير المتفرغ بكلية دارالعلوم بالقاهرة كلمته بقوله نحن بحمد الله على مر ثمانية عقود عاكفون فى هدوء وإصدار وبعزم صحيح على أداء هذه الأمانات أيًا كانت الإمكانات والأدوات، ونحن لا نشكو فسنعمل ونضاعف العمل، أيًا كانت الأحوال، وليست أحوالنا فى هذا الجانب ضيقة بحمد الله، فقد تذكرت هذه المؤسسة العريقة (مجمع اللغة العربية بالقاهرة) هيئة عربية توجيه مقرها الرباط، فقامت بإلباس هذا المبنى رداء جيدًا تأهيلياً له ليكون أكثر طواعية لاعتراضاته المتنوعة واعترفت هيئة مشرقية مرموقة بجهود هذه المؤسسة أيضًا وخصوصًا فى مجال إصدار المعاجم اللغوية فسعدت فى أخريات العام الماضى بتسلم جائزة الملك فيصل العالمية بالرياض عاصمة المملكة السعودية الشقيقة، فخصصناها للغرض العلمى الذى جعلت من أجله.. إن الذى نشكوه فى الحقيقة هو تراجع الشعور العام بالاعتزاز بهذه اللغة الشريفة، لغة القرآن الكريم والتراث الحضارى العربى وعنوان الواقع الوجودى للأمة العربية.. لا القادة المسئولون يرعون حرمة اللغة القومية وكرامتها كما كان أسلافهم فى أجيال سابقة، ولا الكتَّاب والإعلاميون الذين يناط بهم فى مجتمعات أخرى قيادة الفكر وصفاء لغته ولا الشباب المفتونون بثورة العصر الثقافية والمعرفية يعرفون لغتهم بالقدر الذى يتيح لحياتنا القومية والوطنية أن تشارك فى مسيرة الحضارة الإنسانية العالمية.. عدم الاعتزاز بالعربية بل هوانها فى عقر دارها على مختلف الأصعدة الرسمية والاجتماعية والثقافية هو الداء الذى ينخر فى وجودنا الثورى ويهدد وجودنا الإنسانى.. وأضاف د.الشافعى أن تاريخ أى ثقافة أو لغة هو سلسلة له التحديات والاستجابات ولن يكون عهدنا عهد تفريط أو استسلام. أما أمين عام المجمع الشاعر فاروق شوشة فقد قال إنه إذا كان لهذه الدورة المجمعة اسم يطلق عليها وسمة تتسم بها، فما أجدرها بأن تسمى دورة الإنجاز، وهو إنجاز يشمل كل ميادين العمل المجمعى وينطق بها تحقق فيه وبما هو أيضًا وشيك التحقق.. وأضاف أن مؤتمرنا فى دورته الثمانين اتخذ من التعريب عنوانا له، وقد سبق لمجمعنا طرحه فى مؤتمر سابق، ذلك لأن التعريب هو بالنسبة لنا وللغة قضية قومية، هل هو قضية حياة، وحاجتنا إلى التعريب قائمة ومستمرة، مادمنا نسعى جميعًا إلى أن تكون لغتنا صالحة لخطاب العصر وافية لكل مطالبه واحتياجاته مدركين أن للتعريب مشكلاته وهو الأمر الذى تتناوله بعض بحوث المؤتمر، لكنه يظل جوهريًا وأساسيًا فى تحقيق التنمية اللغوية وإثراء اللغة لكل ما يضيف إليها ويتوسع من متنها ومن آلياتها.. وحاجتنا إليه ألزم عندما يتصل الأمر بتعريب العلوم، بالرغم من الموقف المؤسف الذى اتخذته لجنة قطاع الدراسات الطبية بالمجلس الأعلى للجامعات فى يناير الماضى حين أوصت برفض مبدأ تغيب العلوم، وكانت حريصة على أن يرسل السيد الدكتور وزير التعليم العالى والبحث العلمى بقرارها الغريب الذى يخالف وثائق مصر الدستورية التى تنص على وجوب التعريب، كما أن موقفها يمثل رفضًا للمبدأ فى حد ذاته دون أن يتمثل فى مجر وضع شروط للتعريب من وجهة نظرتها ويظل موقف هذه اللجنة خروجًا على كل ما أنتهت إليه مواقف مجمعنا وسائر المجامع العربية، ومن بينهما المجمع السورى الذى نجح فى تعريب العلوم الطيبة على سبيل المثال.. ويضيف شوشة لقد جاء هذا الموقف الغريب من لجنة قطاع الدراسات الطبية بالمجلس الأعلى للجامعات ردًا على الاقتراح الذى اتخذه مجلس المجمع فى أكتوبر الماضى وقدمة إلى وزارة التعليم العالى مطالبًا بإنشاء مركز لتعريب تدريس العلوم فى المستوى الجامعى، وهو أمر لن يتوقف المجمع عن المطالبة بضرورة تحقيقه، فهو فى صمم رسالة المجمع وفى صميم رسالتنا القومية المستمرة من أجل اللغة العربية.. ونستكمل الأعداد القادمة إن شاء الله.