هذا الشاعر الفارس تضيق المساحة عن ذكر مناقبه: معاركه وانتصاراته وأشعاره وتصرفاته مع معاصريه، إنه عامر بن الطفيل بن مالك من بنى عامر من قيس مضر، كان جده مالك فارسا وشاعرا، وكذلك أعمامه الخمسة والذين اشتهر كل منهم بصفة خاصة به: أبو براء عامر ملاعب الأسنة، وطفيل الخيل والد شاعرنا، وربيع المقتريين والد الشاعر المعروف وصاحب المعلقة الوليد بن ربيعة، ونزال المضيق سلمى، ومعود الحكماء معاوية، وجدته هى أم البنين والتى افتخر بها لبيد أمام النعمان بن المنذر.. عندما قال: نحن بنى أم البنين الأربعة المطعمون الجفنة المدعدعة والضاربون الهام تحت الخيضعة يارب هيجا هى خير من دعه وقيل إنه قال «أربعة» وهم خمسة إما لوزن الشعر أو لأن أباه ربيعة كان قد مات وبقى أعمامه الأربعة. وقد ولد شاعرنا عامر بن الطفيل فى الجاهلية قبل نزول القرآن بسبعة وخمسين عاما، وكان من أبطال العرب المعدودين الذين يخشى جانبهم، فقد كان يجيد ركوب الخيل والطعن بالرمح والضرب بالسيف وهو هنا يصف نفسه: لقد تعلم الحرب أنى ابنها وأنى الهمام بها المعلم وأنى أحل على رهوة من المجد فى الشرف الأعظم وأنى أكر إذا أحجموا بأكرم من عطفه الضيغم وأضرب بالسيف يوم الوغى أقد به حلق المبرم وعلى الرغم من فروسيته وشاعريته إلا أنه عرف بخصال مذمومة منها عنجهيته وجفاء طبعه وظلمه وبخله.. كما كان عقيما لا ينجب، وعندما شاخ عمه أبو براء عامر ملاعب الأسنة، أراد قومه أن يسودوه عليهم، فأبى أن يتولى الزعامة عن وراثة، فهو ليس فى حاجة لأمجاد قومه.. وإنما لديه ما يؤهله من السيادة عليهم، وهو القائل: إنى وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المندوب فى كل موكب فما سود تنى عامر عن قرابة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكننى أحمى حماها وأتقى أذاها وأرمى من رماها بمنكب وقد قاد عامر قومه فى معركة «فيف الريح» وهو مكان قرب نجد وكانت بين قومه وتحالف من قبائل اليمن «بنى الحارثة»، وقد كان النصر فيها لبنى عامر، إلا أن مسهر بن يزيد الحارثى فاجأه من خلفه وطعنه برمحه فأصاب عينه ففقأها، فوثب عامر عن فرسه ونجا جريا على رجليه والدم يسيل من عينه.. وقد ذكرها فى شعره وكذلك فرسه «المزنوق» حيث يقول مفاخرا بقبيلته العليا «هوازن» وجده جعفر: لقد علمت عليا هوازن أننى أنا الفارس الحامى حقيقة جعفر وقد علم المزنوق أنى أكرّه على جمعهم كر المنيح المشهر إذا أزور من وقع الرماح زجرته وقلت له: ارجع مقبلا غير مدبر ويستمر فى وصف المعركة وما جرى فيها إلى أن يصل إلى ذكر حادثة إصابته بالعور، وإن كان فقد عينه لم يفقد شجاعته وإقدامه: لعمرى، وما عمرى على بهين لقد شان حر الوجه طعنة مسهر فبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا، فما عذرى لدى كل محضر وقد علموا أنى أكر عليهم عشية فيف الريح كر المدور هكذا كان عامر فارسا شجاعا مشهورا بين العرب، حتى أن قيصر ملك الروم كان إذا قدم عليه أحد من العرب سأله: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإذا ذكر صلة ما.. عظم عنده، كما ذكر أيضًا أن النعمان بن المنذر أرسله على رأس وفد من العرب إلى ملك الفرس كسرى، فتكلم عامر بين يدى الملك فأظهر غلظة وخشونة فى القول، فقال له كسرى: متى تكاهنت يا عامر؟ فأجاب: لست كاهنا ولكنى بالرمح طاعنا، فقال كسرى: فإن أتاك من جهة عينك العوراء ما أنت صانع؟ قال: ما هيبتى فى قفاى بدون هيبتى فى وجهى! وكذلك لم ينس التاريخ غدره بأصحاب النبى عند بئر معونة، فقد جاء عمه عامر بن مالك (ملاعب الأسنة) إلى الرسول بالمدينة وأهدى إليه هدية، فأبى النبى أن يقبلها، وقال لا أقبل هدية مشرك، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك، ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن، فلم يسلم ولم يرفض وقال: يا محمد إن الذى تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فيدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال النبى: إنى أخشى عليهم من أهل نجد، فقال أبو البراء: أنا لهم جار، فبعث الرسول المنذر بن عمرو فى أربعين رجلا فنزلوا فى مكان يقال له «بئر معونة» فخرج عليهم عامر مع قوم من بنى سليم فقتلهم إلا واحد أعتقه - بعد أن أسره - وعندما علم عمه بذلك غضب غضبًا شديدا واستدعاه وانقض عليه بطعنة وقعت فى فخده فجرحته ولم تقتله. هكذا كان عامرا شديد البأس بطاشا ظلوما.. وقد كان يردد: لقد تعلم الخيل المغيرة أننا إذا ابتدر الناس الفعال أسودها على ربد يزداد جودا إذا جرى وقد قلقت تحت السروج لبودها وقد خضبت بالماء حتى كأنما تشبه كمت الخيل منهن سودها وقد أدرك عامر حدا من العنجهية والاعتداد بالذات، لم يبلغه أحد من فرسان العرب قبله، فبعد أن علم بانتصارات النبى ومبايعة القبائل له أراد أن يشاطره السلطان، فجاءه فى وفد من قومه بصحبة أربد أخو الشاعر لبيد بن ربيعة، وقد اتفق هو وأربد على قتل النبى، ولكن أربد لم يجرؤ على ذلك، واحتج بأنه كلما هم بضرب النبى يرى عامرا حائلا بينهما، وقد ساوم عامر النبى على اعتناق الإسلام بشرط أن يكون له سكان الخيام وللنبى سكان المدينة وأن يكون له نصف ثمارها فأنكر النبى طلبه، فخرج متوعدا: لأملأنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا، ولأربط بكل نخلة فرسا، فقال النبى: اللهم اكفنى عامرا، واهدى بنى عامر. وفيما كان عامرا عائدا إلى نجد ومعه أربد، سقطت صاعقة على أربد فقتلته، وأصيب عامر بالطاعون فى عنقه، وكان يعالج فى بيت امرأة من قبيلة سلول.. وهى من القبائل المستضعفة، فكان يصيح ألما وغيظا: يا موت ابرز لى، أغدة كغدة البعير وموت فى بيت سلولية؟ وظل كذلك إلى أن هلك! أما لماذا كنى عمام مالك بملاعب الأسنة، ومعاوية بمعود الحكمة فلكل من ذلك قصة، فقد كان هناك معركة بين قيس ومنها بنى عامر وقبائل تميم سميت بيوم «سوبان» حيث فر منها أخوه طفيل الخيل والد شاعرنا، وتركه وحده بالمعركة، وهو ما وصفه الشاعر أوس بن حجر فيما بعد: فررت وأسلمت ابن أمك عامرا يلاعب أطراف الوشيج المزعزع يلاعب أطراف الأسنة عامر وراج له خط الكتيبة أجمع فسمى مالك بملاعب الأسنة «الرماح»، أما عمه معاوية ابن مالك، فقد حاول التوسط بين قبائل كعب لرأب الصدع بينها، بعدما تفرقت وصارت بينها الأحقاد.. وفى ذلك يقول معاوية فى أحد قصائده: رأيت الصدع من كعب فأودى وكان الصدع لا يعد ارتئابا حملت حمالة القرشى عنهم ولا ظلما أردت ولا اختلابا أعوّد مثلها الحكماء بعدى إذا ما الحق فى الأشياع نابا وبهذا سمى معود الحكماء..